وكأن اللبناني لا يكفيه ما يُعانيه. جنى العمر محجوز، الليرة "ليست بخير مطلقًا"، الرغيف "مفقود"، البرادات "خاوية"، "لا تقدّم" في مفاوضات صندوق النقد في محاولة إنقاذ "ما لا يُمكن إنقاذه"، أي مساعدة من أي دولة مشروطة بالاصلاحات التي "لن تأتي"، فيما السلطة في مكان آخر. رئيس الحكومة يستدعي وزير الاقتصاد، كي يبحث الحلول لأزمة الرغيف، وهو الوزير صاحب "صفر انجازات" على صعيد ضبط الأسعار المتفلّتة منذ توليه الوزارة. وقاضٍ مازح السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا، بمنعها من التصريح والاستصراح لمدة عام، في سابقة "قانونية" ضربت بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية لاسيما اتفاقية "فيينا" التي ترعى العلاقات الدبلوماسية عرض الحائط. فشتّت الأنظار عن أزمة الشعب الحقيقية. شيا كسرت قرار القاضي، وأطلت عبر قناتين لبنانيتين، لتُعلن أنها "سمعت اعتذارًا من الحكومة اللبنانية"، الأمر الذي نفته وزيرة الإعلام منال عبد الصمد، مؤكدة أن "لا اعتذار رسمي من قبل الحكومة". وبما أن وزارة الخارجية هي الجهة المسؤولة عن التنسيق مع الجهات الديبلوماسية العاملة على الأراضي اللبنانية، فكيف سيكون ردّ الحكومة اللبنانية عبر وزير الخارجية ناصيف حتّي الاثنين المقبل؟
قرار مازح
وكان قاضي الأمور المستعجلة في صور محمد مازح، قد أصدر قرارًا بـ"منع أي وسيلة إعلامية لبنانية أو أجنبية تعمل على الأراضي اللبنانية، سواء كانت مرئية أم مسموعة أم مكتوبة أم ألكترونية، من إجراء أي مُقابلة مع السفيرة الأميركية دوروثي شيا أو إجراء أي حديث معها لمدة سنة، تحت طائلة وقف الوسيلة الإعلامية المعنية، عن العمل لمدة مماثلة، في حال عدم التقيّد بهذا الأمر، وتحت طائلة إلزام الوسيلة الإعلامية المعنية بدفع مبلغ مائتي ألف دولار أميركي كغرامة إكراهية في عدم الالتزام بمندرجات هذا الأمر.
ويأتي القرار بناء على استدعاء مقدّم من المواطنة فاتن علي قصير، وذكر مازح فيه أن شيا تناولت في لقاء عبر قناة "الحدث- العربية" أمس، "حزب الله"، معتبرًا أن ذلك تدخّل في الشؤون اللبنانية، و"يخرج عن الأعراف الديبلوماسية المعهودة والمتعارف عليها، بموجب المعاهدات الدولية واتفاقية فيينا، ويُسيء لمشاعر كثير من اللبنانيين، ومن بينهم المستدعية، ويُساهم في تأليب الشعب اللبناني على بعضه، وعلى الحزب المذكور وما يُمثّل، ويُثير نعرات طائفية ومذهبية وسياسية، ويُشكّل صبًا للزيت على نار فتنة، اجتهد اللبنانيون والمجتمع الدولي والإقليمي لإخمادها في مراحل سابقة".
الردّ الأميركي
وجاء الردً الأميركي سريعًا من قبل شيا، وعبر مؤسسات إعلامية لبنانبة في كسرٍ لقرار القاضي، حيث أكدت شيا، في اتصال هاتفي مع قناة "ام تي في" قائلة: "كنت أتمنى أن يقضي الناس هذا الوقت في محاولة حلّ المشاكل التي تواجه البلد الذي يعاني من أزمة اقتصادية أدت الى أن تقلق الناس على تأمين الطعام على المائدة. لذا لا، لم تسكت سفارة الولايات المتحدة الاميركية".
وأضافت شيا: "قد سمعنا اعتذارًا من الحكومة اللبنانية عن قرار هذا القاضي ويجب أن تبقى حرية التعبير للشعب اللبناني مُصانة".
لكنّ وزيرة الإعلام منال عبدالصمد نفت في مقابلة مع قناة "الجديد"، أن تكون الحكومة قد قدّمت " اي اعتذار رسمي لشيا". وقالت عبد الصمد: "تواصلت مع رئيس الحكومة حسان دياب والزملاء في الحكومة وتبيّن أنّ أحداً لم يعتذر من السفيرة الأميركية، والحكومة تحترم السلطة القضائية".
كما ردّت السفارة الأميركية في بيروت عبر "تويتر": نؤمن جدّاً بحرية التعبير وبالدور المهم للإعلام الحرّ في الولايات المتحدة ولبنان ونقف الى جانب الشعب اللبناني".
بالنسبة لوزارة الخارجية اللبنانية، فإن السفارة الأميركية في لبنان "لا يُمكن أن تُبلَّغ بأيّ قرار إلّا عبر وزارة الخارجية اللبنانية"، وهذا القرار، وفقًا لمصادر في الوزارة، "غير موجود بالنسبة للوزارة".
واعتبرت هذه المصادر في حديث لقناة "ال بي سي" أن قرار القاضي "يتعارض مع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية لاسيما اتفاقية فيينا التي ترعى العلاقات الدبلوماسية".
وكشفت أن وزير الخارجية اللبنانية ناصيف حتي سيكون له موقف رسمي من هذا الأمر يوم الاثنين.
مواقف مندّدة
وعقب إصدار القرار، كانت وزيرة الإعلام منال عبد الصمد نجد أول المندّدين بالحدّ من حرية الإعلام، وقالت في تغريدة عبر "تويتر": "أتفهّم غيرة القضاء على أمن الوطن من تدخّل بعض الدبلوماسيين في شؤونه الداخلية. لكن لا يحق لأحد منع الاعلام من نقل الخبر والحد من الحرية الاعلامية.. وفي حال لدى أحد مشكلة مع الاعلام فليكن الحلّ عبر وزارة الإعلام والنقابة والدور الاستشاري للمجلس الوطني للاعلام وانتهاءً بمحكمة المطبوعات".
ورأى حزب "الكتائب" أن هذا القرار "قرار سياسي بامتياز يتعرّض أولاً للحريات وبشكل خاص للحرية الإعلامية وحرية نقل الأخبار والتصاريح، ويتناقض ثانياً مع الإتفاقيات والمواثيق الدولية التي تحمي العلاقات الدبلومسية بين الدول، ولاسيما إتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية التي تعطي حصانة مطلقة للسفراء والسلك الدبلوماسي في الدولة المضيفة، لا بل تلزم الدولة المضيفة باتخاذ كل التدابير اللازمة لمنع أيّ كان من التعدي على حرية الدبلوماسيين".
واعتبر "الكتائب" أنّ هذا القرار "يأتي في سياق محاولة أخذ لبنان شرقاً وزيادة عزلته الدولية وقطع أوصاله مع كل الدول الأخرى، كما يشكّل خطراً على المساعدات والدعم الذي يتلقاه لبنان من الولايات المتحدة الأميركية بدءاً بالجيش اللبناني"، مطالبًا "مجلس القضاء الأعلى تصحيح هذا الخطأ والتصدّي لكل محاولات تسييس السلطة القضائية في لبنان".
كما غرّدت النائبة ديما جمالي، عبر "تويتر" قائلة "مجزرة قانونية وديبلوماسية، ذاك القرار القضائي الصادر بمنع سفيرة من التصريح، ومنع الاعلام من استصراحها، فقد خرق الدستور والمعاهدات الدولية والقوانين المحلية، وفوق ذلك أكد لللبنانيين أن أمل النهوض بالبلد عبر سلطة قضائية مستقلة، صار حلما مستحيلا فعلا لبنان ينهار".
بدوره، غرّد النائب نهاد المشنوق عبر "تويتر" بالقول: "اليوم خرج علينا قاضٍ يعلن حرباً إعلامية على الولايات المتحدة الأميركية، ومن خلالها على المجتمع الدولي، الذي يحتاج لبنان إلى التفاهم معه بالعقل والمنطق، وليس بالعنتريات الفارغة"، مضيفًا "هذه عصفورية وليست سلطة. واستخدام القضاء في معركة سياسية ضد أميركا، بعد الشيخ الذي هدّد بالقمصان السود وطائرة استطلاع حركة "الثورة"، هو دليل على إفلاس كبير. لكنّه أيضاً دليل على انتحار المنطق، وعلى خيار الانتحار الجماعي الذي تأخذنا إليه هذه سلطة الحزب الحاكم".
وكانت قناة "ال بي سي" قد أصدرت بيانًا اعتبرت فيه أن " قرار القاضي تدخل بقدسية وحرية العمل الاعلامي التي يصونها الدستور اللبناني والقوانين المرعية الإجراء، وتعتبره قرارا غير ملزم وغير نافذ، وبالتالي ستتقدم بطعن بوجهه، امام السلطات القضائية المختصة".
وأشارت الـLBCI الى أن "لا قضاء العجلة ولا القضاء البطيء قادر على المس بالحريات الإعلامية، وإذا كانت هناك من تصفية حسابات سياسية، وارتضى بعض القضاء أن يكون جزءًا منها، فإن الحريات الإعلامية ليست جزءًا من هذه التصفيات ولا هي مكسر عصا، فالحرية الاعلامية اما ان تكون واما أن تكون".
مواقف مرحّبة
في المقابل، رحّب تجمع المحامين في "حزب الله" بالقرار الصادر بإسم الشعب اللبناني عن القاضي مازح والذي اتخذ فيه "تدبيراً رادعاً" للسفيرة الأميركية، ومنعها من الإدلاء بتصريحات إعلامية تهدف من خلالها إلى زعزعة الاستقرار في الوطن. وأثنى التجمّع على القرار، ووصفه بالوطني المُشرّف والمُحقّ ويُعبّر عن رغبة الشعب اللبناني المقاوم بكل أطيافه.
واعتبر التجمع أن وصف السفيرة شيا لـ"حزب الله" ومقاومته "بالارهابي" هو إهانة وعدوان على الشعب اللبناني وشهدائه وجرحاه وتضحياتهم التي عانوها بسبب سياسات الولايات المتحدة ودعمها اللامتناهي للعدوان الصهيوني على لبنان وفلسطين وكل بلادنا العربية سلاحاً وعتاداً وأموالاً وإعلاماً، معتبرًا أن ما اقترفته هذه السفيرة يستدعي تقديم إعتذار واضح للشعب اللبناني".