شرّ البلية ما يَدفع العقلاء للابتعاد، قسراً، عن التفكير بالأمور الكبيرة والداهمة، ويجبرهم على الالتفات للهلوسات والسفاسف والثرثرات. في البلد انتفاضةٌ جارفة تعبيراً عن رفض ما اقترفته السلطة، وخصوصاً في هذا العهد، من تهميش للدستور، وتفريغ للمؤسسات، وقمع للحريات، وإفقار للناس، واستغلال للأجهزة والمؤسسات، واستعداء للأشقاء والأصدقاء. في البلدِ أناسٌ ينتحرون لأن عقلية الانتقام وسياسات التذاكي والشعبويات لا تطعم خبزاً، ولا تؤمّن فرصاً.. لكن فيه أيضاً من يجد متسعاً من الوقت للإمعان بالتحريض ولو ضدّ قامات وطنية وشهداء أبرار، باتوا في دنيا الحق بعد أن خدموا لبنان، كلّ لبنان، بوافر من الالتزام الوطني والميثاقي والرؤيوي، ولو على حسابات مكوناتهم الخاصة أحياناً لسبب بسيط يفتقرُ إليه كثيرون ممن هم في سدّة المسؤولية راهناً، وهو إيمانهم بالدولة واحترامهم للدستور ومراعاتهم للعيش الوطني الواحد.
قبل يومين، أتحفت محطة «OTV» اللبنانيين، بمقدمة نشرة أخبار تنضحُ افتراءً وتحريضاً يقارب الجريمة الموصوفة. لم تترك القريحةُ الصدئةُ واحداً من رؤساء حكومات لبنان منذ 1956 ولغاية الأمس القريب، إلا وكالت له تهماً وأكاذيب وادعاءات من خلال اجتزاء وقائع تاريخية بشكل محوّر وغير دقيق للإدعاء بأنهم تسببوا بأزمات وطنية، ومن ثم سعت المحطة لإسقاط سرديتها المريضة على الواقع الحالي بشكل غوغائي وتحريضي، ناهيك عن أن الأزمة الراهنة في جوهرها نتاج للإمعان بإنكار أن هناك ثورة شعبية عارمة أعلنت يأسها وغضبها من هذا العهد، وصهره، ومن كل الطبقة السياسية أيضاً، ومن جهة ثانية للإمعان أيضاً بتجاوز الدستور والطائف ومقتضيات المصلحة الوطنية.
إنها ذات الثقافة والمنطق الأعوج الذي يتحكم منذ فترة، ثقافة الانتقام حتى من الموتى. إنها سياسات الاستيلاء والهيمنة. هناك من يظن أنه قادر على وضع يده على الرئاسات والإدارات والمقدرات والمواقع، وفوق ذلك أنه قادر على تزوير التاريخ، واستعداء الداخل والخارج!
إنها عقلية ترى في التعطيل والتحريض والافتراء باباً لمراكمة المكاسب واستجرار الشعبويات المفقودة؛ تارة تحت شعار الحقوق وأخرى تحت مسمى الصلاحيات، فيما البلد يرزح تحت حدّي الفساد وشفير الإفلاس، ولا يحتمل نفخاً ببوق الفتنة، أو تأخيراً في إنجاز الحكومة أو عرقلة مساعي الحل، هذا أولاً.
ثانياً: إن الضيق الحاصل تجاه مقام رئاسة الحكومة من التيار العوني، ومن يقف وراءه، كما حصل في أكثر من محطة دستورية تتصل بتشكيل الحكومة وآليات عملها، وكما يحصل حالياً في موضوع خطف الاستشارات النيابية وتلزيم تشكيل الحكومة العتيدة للوزير جبران باسيل، يكشف بحدّه الأدنى تجاوزاً غير مقبول للدستور، كما أنه يكشف محاولات ابتزاز أو ضغط أو تطويع.
هرطقاتٌ تتذرع بالدستور توصلاً للمس بصلاحيات رئيس الحكومة، موقعاً وشخصاً، بهدف فرض أعراف وتقاليد شاذة. المسألة لا تتعلق بقلة فهم للدستور أو عدم احترام للطائف، بل بغايات وأهداف أخرى، وفي العمق تتجاوز الشخص لتمسّ مكوناً وطنياً رئيسياً، وكل ذلك لعبٌ بخطوط حمر، حتى لو خُيّل للعابثين خلاف ذلك. لا يريد أن يفهم هؤلاء، ومن يغطيهم، أن الصلاحيات مكرسة وهي ثوابت دستورية، وأعراف وطنية مستقرة لا يستطيع أيّ كان تجاوزها، ولا يمكن التنازل عنها أو التهاون فيها أو الانتقاص منها شكلاً أو مضموناً تحت أي حجّة.
ثالثاً: لتطمئن المحطة ومن يقف وراءها، أن رؤساء الحكومات في لبنان، قديماً وراهناً، وعلى امتداد 54 حكومة من الاستقلال، ومعهم أهل السنة في لبنان.. بخير. وكما كان السلف من الصلح (رياض وسامي وتقي الدين)، وكرامي (الرشيد وعمر) وعبد الله اليافي وحسين العويني وصائب سلام وشفيق الوزان ورفيق الحريري؛ أهلُ دولة أداروا زمام المسؤولية برجاحة تقدير، ووعي وطني، وحسن تصرف، لم تتلوث وطنيتهم بدماء اللبنانيين، ولم يضعوا أنفسهم يوماً موضع شك أو مساءلة إلا أمام ضميرهم والدستور والشعب، وثلاثة منهم قضوا شهداء مظلومين.. كذلك فإن أصحاب الدولة الموجودين حالياً مثلهم في الحرص على الدستور والمصالح الوطنية والعيش الواحد... ولم ينقل عن واحد منهم أنه هرب في لحظة غفلة، مقدماً مصالحه الشخصية على أرواح المواطنين وأمن الوطن.
أكثر من ذلك، ينبغي أن يعرف من يقف وراء هذه القرقعات، أن الموقع السني الأول أكبر وأعلى وأرفع من أن يتحول إلى «باش كاتب» مطيع وساذج عند موتورين وطائفيين لم يدركوا أن الأزمنة تغيرت، وأن التطاول على القامات ليس طريقاً للوصول إلى شيء. وبالتالي حبذا لو يتفرغ من كتب «المقدمة – الفتنة» ومن وراءه، بدل الخفّة والتحريض وتزوير التاريخ، إلى اجتراح الحلول ولو لواحدة من أزمات البلد الكثيرة في الاقتصاد والمال والرغيف، بل التفرج على السفينة تغرق، وإذكاء نار فتنة لا يعلم أحد إن هي بدأت كيف ستنتهي.
أ.أ