الشيخ د. شوقي علام*
اهتم العلماء بمبدأ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» اهتماماً كبيراً بوصفه عبادة لها آثار متعدِّية، ويعوَّل عليها في تحقيق المصالح وضبط النظام العام بصورة أساسية لما له من خصوصية.
وهذه الخصوصية تظهر من جهة أن الأمر والنهي في ذاته هو الكاشف عن مقاصد الشرع الشريف من الأصل، وهو المحدِّد لـ «المعروف» و«المنكر» اللذان هما مناط الأمر والنهي المتعلق بالمكلفين؛ فالشرع الشريف إذا أمر بفعل علمنا أن هذا الفعل «معروف» وأنه مقصود له، وإذا نهى عن شيء تحقق لنا أن ذلك المنهي عنه هو «المنكر» ذاته، ولذا فما من مقصدٍ من مقاصد الإسلام النقية إلا وله حضور في مبدأ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»؛ لأن المعروف هو المصلحة، والمنكر هو المفسدة، وكلُ مقصودٍ من مقاصد الشرع يراعي جلب المصلحة ودرء المفسدة.
وأول هذه المقاصد الشرعيَّة «حفظ الدِّين»، بل هو المقصود الأسمى للإسلام؛ فما خلق الله البشر إلا ليقيموا دِينه ويستقيموا على أمره، وفي ذلك يقول الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون} [الروم: 30].
ويتحقق هذا المقصد الجليل عن طريق ترسيخ الاعتقاد الصحيح عند المسلم بما يثمر تحلّيه بالعبودية الخالصة للّه تعالى، مع أداء التكاليف الشرعيَّة في العبادات والمعاملات والأخلاق، كذلك يتحقق مقصود الشرع الشريف من «حفظ الدين» من خلال صيانة الفرد والمجتمع عمَّا يفسد عليهم أمور دينهم وعلاقاتهم التعبّدية من الخرافات والبدع والتطرف ونحو ذلك من الآفات الفكرية والثقافية التي تصيب المجتمعات، وتدمِّر بنيانها الثقافي والاجتماعي، خاصة إذا كان التديّن يحتل رأس أولويات الاهتمام من التكوين الاجتماعي لهذه المجتمعات.
وبهذه المعاني يظهر الإطار العام لمبدأ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» وسمات تطبيقه على صعيد مقصد «حفظ الدين»؛ فالمعروف فيما يتعلق بحفظ الدين هو التدين الصحيح الذي يكون على وفق ما أراد الشرع الشريف، وذلك وفق منظومة متكاملة تنطلق من التزام القطعي وعدم الخروج عليه، وعدم الجمود على رأي واحد في الظني والمسائل التي لم يقع بخصوصها اتفاق؛ ولذا ذكر العلماء أن دائرة الظني والمسائل المختلف فيها لا يجوز فيها الإنكار بدعوى «تطبيق النهي عن المنكر» إلا في حالة واحدة وهي اختيار ولي الأمر لرأي وتشريع الالتزام به.
ولذا فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الأداة الأهم والأكثر فعالية لتحقيق مقصود الشرع في «حفظ الدين»، والحفاظ على استقرار المجتمع المتديّن بصورة صحيحة من محاولات تشويه هذا التديّن ووصفه بالضلال واتهام أهله بالخروج عن الإسلام، وهي هزَّات عنيفة نتجت عن تيارات متشددة وجماعات متطرفة، والتي أفرزت جملة من التحديات الخطيرة أمام تديّن المجتمعات المسلمة الصحيح والمتوارث، وما صحب ذلك من تشويه صورة الدين النقية في مختلف الأنحاء.
إن هذه المعطيات التي لا يمكن إغفالها جعلت من مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمة جديرة بالعناية، والحذر في جانب الممارسة والتطبيق، مما جعل من ممارسته في إطار العمل المؤسسي أمراً ضرورياً ومقصوداً لذاته؛ لأن وجود مرجعية شرعية ودينية واحدة داخل الدولة من شأنها أن تزيل الضبابية المعرفية الناتجة عن الاختلال في فهم وتناول المفاهيم الشرعية لدى عامة المجتمع، خاصة مع السيولة الحاصلة في الأفكار والمعتقدات التي تتبنّى أفكاراً ومفاهيم خاطئة عن الدين والشريعة.
وتمارس تلك المؤسسات دورها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتحقيق المقصد الشرعي من حفظ الدين في إطار اختصاصاتها المتنوّعة التي تتمحور حول شرح الحقائق الدينية ونشر المعرفة والثقافة النقية وإعادة عرض الدين الإلهي بصورة لافتة للنظر، وفي إطار ذلك يمكن تحقيق مقصود الشرع من حفظ الدين بتفعيل آلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووضعها في نصابها الصحيح.
مقاصد النفس
أما الحفاظ على النفس الإنسانية فإنه أيضا لا يتم إلا من خلال منظومة تشريعية متكاملة تظهر من معرفة مقصود الإسلام من «حفظ النفس»، وهو يحصل بتحقق ثلاثة معانٍ:
أولها: إقامة أصله بالتكاثر والتناسل.
وثانيها: حفظ بقائه بتوفير الغذاء والشراب والرعاية الصحية، وهذا جانب داخلي للإنسان.
وثالثها: توفير الملبس والمسكن، وهو أمر خارجي عنه.
ثم تكتمل هذه المعاني الثلاثة بثلاثة أشياء مهمة:
أولها: تأطير وجوده بالحفظ عن المحرّمات كالزنا، وذلك بأن يكون على النكاح الصحيح.
ثانيها: حفظ المأكل والمشرب والعلاج بأن يكون مما لا يضرّ أو يقتل أو يفسد.
وثالثها: إقامة ما لا تقوم هذه الأمور إلا به من مراعاة الجوانب التشريعية الجنائية الخاصة بالعقوبات المقررة على النفس من قصاص وديات، وكذا لا يمكن المحافظة على النفس البشرية إلا بالاهتمام بالتعليم والفن والثقافة على ذات قدر الاهتمام بالمتطلبات المادية، من الغذاء والمسكن والرعاية الصحية ونحو ذلك.
إن نظر الإسلام للحياة البشرية يتلخص في أنها هبة من الله تعالى للإنسان، وأن حريته محلها في استعماله لتلك الحياة، فهو يملك كامل الحرية في خياراته التي يتخذها حال كونه «حيّاً»، ويتحمّل عواقب تلك الخيارات التي اتخذها بكامل إرادته وحريته، أما «حياته» فليست داخلة في نطاق اختياره، فهو لا يملك الحق في إنهائها، ولا يملك الحق في تعاطي ما يفسدها ويضرّها من الأسباب والتصرفات؛ لأنها ليست ملكه، بل ملك لخالقها، مستودعة في جسد الإنسان ليقوم بواجبه في عمارة الكون وإقامة الحياة.
ولا شكَّ أن التجارب الإنسانية عملت على تحقيق تلك العملية الرقابية وتفعيل دور «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، من خلال سلسلة من الأجهزة الرقابية التي يتم هيكلتها وبيان لوائحها واختصاصاتها بشكل يساعد على تفعيل دورها في المجتمع، وتحقيق الغايات التي أنشئت من أجلها.
فعلى جانب الغذاء والشراب والملابس والسكن والعلاج والرعاية الصحية: تؤدي الأجهزة الرقابية المعنية بهذا الجانب دورها الذي يبتغى منه ضمان حصول كل فرد من أفراد المجتمع على هذه الأمور بصورة سليمة، مع قيام المؤسسات العامة والخاصة بالدور المنوط بها من «الأوامر والنواهي التشريعية»، التي تضبط السوق على وجه يضمن توفير هذه الخدمات وتلك الرعاية على نحو يحقق مستوى لائق بالمواطن.
وتمتد الرعاية الصحية للإنسان بصرف الجهود إلى الرعاية البيطرية أيضاً؛ لأن صحة الإنسان قد ترتبط بشكل أو بآخر بصحة الحيوان، ولذلك فإن الرقابة على الرعاية الصحية البيطرية لها دور كبير في الحفاظ على الصحة العامة للإنسان.
أما على جانب التعليم والثقافة، تقوم المؤسسات التعليمية والتثقيفية بتطبيق السياسات التي تضعها الدولة للملف التعليمي والتثقيفي، وتقوم الأجهزة الرقابية بمراقبة مدى التزام تلك المؤسسات بالخطط الموضوعة، ومثل ذلك يكون في جانب التشريعات والأحكام القضائية، وكل هذه المجالات مقصود الشرع الشريف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها هو الرقابة عليها، وضمان تحقيق المؤسسات المعنية لمجموعة الأوامر والنواهي تلك الأمور، التي من المفترض أن تحقق الصالح العام لأفراد المجتمع.
وبهذه المعاني تظهر سمات ودور مبدأ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في تحقيق مقصد «حفظ النفس»، فهو يعمل كأداة رقابية ووقائية تساهم مساهمة فاعلة في تحقيق القدر الأكبر من النجاح للمنظومة التشريعية المتكاملة، ويقوم به في التجارب العصرية الأجهزة الرقابية بحسب اختصاصاتها المتنوعة والتي يناط بها تحقيق مقصود الشرع الشريف من «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» وهو: توفير مراقبة فاعلة لأداء تلك المنظومة وقدرتها على تحقيق الأهداف المنوطة بها وفق مقتضيات مقصد «حفظ النفس».
* مفتي مصر