الشيخ د. يوسف جمعة سلامة *
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أُسَامَة بْن زَيْدٍ، يُحَدِّثُ سَعْداً، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ فِي أَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا) وهذا الحديث حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، في كتاب الطب، بَاب مَا يُذْكَرُ في الطَّاعُونِ.
إنّ المؤمن في هذه الدنيا مُعَرَّض للبلاء كالمرضِ وغيره، فالإنسان مُمْتَحَنٌ بالشرّ والخير، كما جاء في قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}؛ لذلك فالواجب على الإنسان المؤمن أن يتبع التوجيهات النبوية في معالجة انتشار هذا الوباء، ومن هذه التوجيهات النبوية في مواجهة الأوبئة العمل على تحجيمها وعدم انتشارها، فالوباء إذا حَلَّ بأرضٍ يجبُ أَلاَّ يَخْرُج منها أحدٌ كان فيها فراراً منه؛ لِئَلاَّ يكون حاملاً للوباء فينشُرهُ في الناس، ولا يقْدُمُ عليها أحدٌ مِمَّن هم خارجها؛ حِفظاً للنَّفس من أسباب التَّهْلُكة.
علَّمتنا جائحة كورونا
علَّمتنا هذه الجائحة أنَّ نعمة الصحة والأمن والغذاء من أَجَلّ النّعم التي أنعم الله سبحانه وتعالى بها على عباده بعد تقوى الله سبحانه وتعالى، كما جاء في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً فِي سِرْبِهِ، مُعَافىً فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا).
علَّمتنا هذه الجائحة أنَّ اتباع النصائح الطبية يُعَزّز أسباب الوقاية الصحية، وعدم اتباعها يؤدي إلى نتائج مُهلكة، فقد أصدرت وزارة الصحة تعليمات وقائية منها: ضرورة ارتداء الكمامة، والالتزام بالتَّباعد، وأخذ اللّقاح اللازم ، وتَجَنُّبِ الزّحام، وعدم مُخالطة المُصَابين بأمراض مُعْدية، والاهتمام بالنظافة وغسل اليدين بالماء والصابون، وتغطية الفم والأنف بمنديلٍ عند السُّعَال أو العُطَاس، والاكتفاء بإلقاء التحية، وتجنُّب السلام باليدِ أو عِنَاقِ الآخرين أو تقبيلهم، فمن واجبنا الالتزام بكافة هذه التعليمات، فذلك مطلب شرعي وواجب وطني.
كما علَّمتنا هذه الجائحة أنّ كلّ من أُصيب بفيروس كورونا وكتب الله له الشّفاء بفضله وَمَنِّه وكرمه، يجب عليه الاستمرار في أخذ الحيطة والحذر، وضرورة الاهتمام بتطبيق الإجراءات الوقائية التي تُوصِي بها الجهات المعنية.
الحَجْرُ الصّحي... واجب شرعي ووطني
من المعلوم أنّ ديننا الإسلامي الحنيف قد سبق الأنظمة الوضعية في المحافظة على حياة الفرد وسلامة المجتمع، فقد أَقَرَّ رسولنا صلى الله عليه وسلم مبدأ الحَجْرِ الصّحّي وقايةً من الأمراض المُعدية قبل أن تعرفه أوروبا بقرون عديدة، وظهر ذلك جَلِيًّا بشأن مرضى الطاعون والجذام لذلك فإن الحَجْرَ المنزلي أصبح واجباً على الجميع في هذه الأيام؛ لأن بلادنا تتعرّض لموجة جديدة من جائحة كورونا، وهو الطريقة المتاحة للتخفيف من آثار المرض، ولا بُدَّ من الالتزام به، لينجو الإنسان بنفسه وينجو المجتمع، فالالتزام بالحَجْرِ المنزلي مسؤولية الأسرة كما جاء في الحديث: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤوُلٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ).
وقال ربُّكم ادعوني أستجب لكم
إن الدُّعاء مَلاَذُ كلّ مكروب وأملُ كلّ خائف وراحةُ كلّ مضطرب، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، فالدّعاء من أعظم العبادات التي ينبغي للمسلم أن يعتصم بها، خاصةً في أيام المحن والشّدائد، فهو المناجاة للّه عزَّ وجلَّ والافتقار والتّذلّل والمَسْكَنَة بين يديه سبحانه وتعالى، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، ونحن في هذه الأيام أحوج ما نكون إلى التوجه إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء خاشعين مُتَذَلِّلين، أن يكشف عنّا وعن شعبنا وأمتنا والعالم أجمع الوباء والبلاء، فالدعاء من أعظم العبادات التي ينبغي للمسلم أن يعتصم بها خاصةً في أيام المِحَنِ والشّدائد، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ).
ولن تتحقق تلك النتيجة المأمولة في مكافحة فيروس (كورونا) إلا بتكاتف الجميع، والالتزام بكل الإجراءات التزاماً تاماً، فالمسألة مهمة جداً، فهي حياة أو موت، فلا تهاون في تطبيقها.
أمـرُ المـؤمن كلّه خيـر
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنْ صُهَيْبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ).
لقد أرشدنا رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى أنّ المؤمن دائماً أمره خير، إذا أصابته سرّاء كان خيراً له، وإنْ أصابته ضرّاء أيضاً كان خيراً له، لأنّ في كليهما الخير والثواب، فهو الرابح في النهاية، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، كما جاء في الحديث السابق.
والمؤمن الذي يعمر الإيمان قلبه، يلجأ دائماً إلى الله تعالى في السّراء والضّراء، فهو يصبر على البلاء، ويرضى بالقضاء، ويشكر في الرخاء، ويسأله العون وتفريج الكروب فهو على كل شيء قدير، لأنّ ثقته بالله عظيمة، فالليل مهما طال فلا بُدَّ من بزوغ الفجر، وأمّا غير المؤمن فيضعف أمام الشدائد، فقد ينتحر، أو ييأس، أو تنهار قواه، ويفقد الأمل لأنه يفتقر إلى النّزعة الإيمانية، وإلى اليقين بالله، ومن المعلوم أنّ الإيمان نصفه شكر على النّعماء، ونصفه صبر على البأساء والضرّاء.
وقد خرج الإمام البخاري في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: (لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ، قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلاَلُ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَتْ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ
وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وَكَانَ بِلاَلٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ فَيَقُولُ:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً
بوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْماً مِيَاهَ مِجَنَّةٍ
وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ).
وعند دراستنا للحديث السابق يتبينُ لنا ضرورة الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى بالدُعاء للتداوي به عن الأسقام ودفع الوباء، وأثره الطيب في سُرعة البرء من الأمراض، والشّفاء منها، ودفعها، وإظهارِ الخضوع والتذلل للّه سبحانه وتعالى، فكَمْ نحنُ بحاجةٍ إلى الالتجاء إلى الله عزَّ وجلَّ في أوقات الأزمات والشدائد، وفي كلّ ما يَعْرِضُ لنا من مرضٍ في الأبدان، أو غير ذلك ممَّا لا يملكُ كشفهُ وإزالتهُ إلا الله الواحد القهار.
* خطيب المسجد الأقصى