خدمة الناس وقضاء مصالحهم (تطوّعاً) متعة وشعور طيب لا يستشعره إلا أصحاب النفوس الطيبة التي تتعب ليستريح الآخرون وتسهر لينام المتعبون وتجتهد ليفرح المكروبون.
فما بالنا إذا كانت هذه المصالح والخدمات تقتضيها واجبات وظيفة أو مهنة معيّنة يأخذ عليها الموظف أجراً؟!
وماذا لو كان ذلك في شهر الصيام الذي تعظم فيه الأجور وتتضاعف الحسنات؟!
سليمان
{ الدكتور أحمد علي سليمان، عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، يوضح أن العبادات في الإسلام ليست شعائر تؤدي فقط ولكنها موجّهات للإنسان إلى طريق الله ومراقبته في السر والعلن والإحسان الى كل مفردات الطبيعة والكون والحياة.
وشدّد على أن من يعمل بمهنة يأخذ عليها أجرا، عليه أن يلتزم بواجبات هذه المهنة من مراقبه الله ومراعاة وقت العمل والتعامل مع حوائج الناس بكل أريحية وإقبال، وإذا كان في رمضان فمن باب أولى أن يؤدي ذلك دون كسل أو تقاعس، أو حتى العبس في وجوه من حوله بحجّة أنه صائم.. بل الواجب على المسلم - إذا كان صائما حقا - أن يكون واسع الصدر، إذ التعامل مع الجمهور من الأمور التي تشق على ذوي النفوس الضعيفة والهمم، لما يقتضيه من صبر وأناة وأمانة ونحو ذلك، لذا فالقائم على هذه المهام بالوجه الذي ينبغي لا سيما في رمضان - كان (صائما) حقا، وهنا يفرح بما قدّم ويستشعر لذّة الصيام، لأنه يراقب الله في تعامله مع الناس، وأمثال هؤلاء كان حريّاً على الله أن يكافئهم في الدنيا والآخرة. فضلا عما قد تصيبه من كلمة طيبة أو دعوة صادقة ممن يقوم بخدمتهم لقاء تخفيف معاناتهم أو إرشادهم إلى ما ينفعهم. بخلاف من يشق عليهم تكاسلا أو إهمالا، ويدّعي أنه صائم، والصيام من تقصيره براء.
وأضاف أن الشرائع عبر التاريخ الإنساني لم تعرف شعيرة ألصق بالضمير الإنساني من الصيام، لأن المقومات الذاتية لهذه الشعيرة قد جعلتها سرية وإن أدّيت في العلن، فالصوم ليس فعل شيء، بل ترك شيء أو أشياء، وكل إنسان يستطيع أن يثبت أنك مفطر، ولكن لا أحد يستطيع أن يثبت أنك صائم، كما أن الإنسان يستطيع أن يدخل في مكان مغلق ويأكل ملء بطنه ويشرب ملء فيه ويخرج على الناس قائلا ما أشدّ الصيام في هذا اليوم. ولكنها المراقبة لله عزّ وجلّ.. وتلك المراقبة أيضا يجب أن تكون الدافع لإخلاصه وطاعته لله في كل شيء وليس في الصيام وحسب.
وإذا كان من المقاصد المركزية للصيام تعويد النفس على الجوع بقسوته العاتية على البطن فإنه أحرى أن يجعل المسلم متعوّدا على التعايش مع الضغوط الحياتية بصورها المتعددة وأن يؤدّي أعماله أثناء الصيام أداء حضاريا متميّزا باعتبار أن العمل والعبادة وجهان لعملة واحدة. لذا فالمأمول من الموظف والقائم على مصالح العباد أو من يتعامل مع الجمهور أن يكون أكثر إيجابية وأكثر عطاء وإقبالا على العمل في رمضان عن غيره من الشهور.. أليس يرجو رحمة ربه.. أليس يرجو المغفرة والعتق من النيران، فها هو يسخّره الله عزّ وجلّ لقضاء مصالح عباده، ليرى ماذا يفعل فيها، فيؤجر على قدر تيسيره عليهم، ورفقه بهم، والمكافئ هنا رب الجود والكرم في شهر الصيام والكرم.
فالصوم لم يكن أبدا دافعا للكسل وإهمال العمل، وكيف ذلك وقد حارب الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في غزوة بدر في شهر رمضان وانتصروا.. ومعلوم أن الحرب هي أشدّ الأعمال، وحارب المسلمون كثيرا في رمضان عبر التاريخ الإسلامي المديد في رمضان وهم صائمون وانتصروا ولم يقلل الصوم من نشاطهم بل كان الصيام دافعا ومحفّزا لهم على الصبر والبذل والنشاط والثبات.
بيومي
{ ويعجب الدكتور محمد البيومي، عميد كلية أصول الدين، ممن يقصّرون في أعمالهم بإسم الصيام، مشيرا إلى أن حقيقة الصيام هي الامتناع عن الأكل والشرب وشهوة البطن والفرج لا الامتناع عن العمل. وأوضح أن هناك فرقا بين العابد المطلق والعابد المقيّد، فالعابد المقيّد هو من اختصر الصيام كعبادة في الامتناع عن الطعام والشراب، لكن العابد المطلق هو من يعبد ربه على حسب مقتضيات كل لحظة من اللحظات. كما أن الصوم يعمل على تصفية النفوس والتسامي بالأرواح وهذا من شأنه ان يمدّ الفرد بطاقة روحية ونفسية تجعله أقدر على الانتاج والعمل أكثر مما لو لم يكن صائما، وهذه الطاقة الروحية قوة لا يستهان بها. ونعى على المتكاسلين عن العمل المضيّعين مصالح العامة أو الخاصة، قائلا: وأي أجر عن الصيام هذا الذي ينتظره المقصّرون..كيف سيقابل الصائم ربّه إذا ما حاسبه في أمر إنسان قصده في عمله فتكاسل عن أداء وظيفته وتهرّب منها بحجّة الجوع والكسل، بل ان تحسين العمل يكون في أعلى درجاته في شهر رمضان لأنه يخلق في الإنسان خلق المراقبة فيجعل الإنسان مستحضرا لربه في كل لحظة وبالتالي لا غش ولا خداع في عمل أو وظيفة، وفي هذا الشهر يسهل العطاء وليس هناك أثمن من جهد يبذله الإنسان في قضاء حوائج الناس ليتخذ منه مظهرا عن العطاء به يتوب الى الله سبحانه وتعالى.