بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 كانون الأول 2020 12:00ص فقه الأولويات غاب.. فغابت القدوة والمسؤولية

حجم الخط
الشيخ د. أسامة حداد

من كرم الله على الإنسان أن يرزقه فهماً وعلماً يعيش بهما بين الناس كريماً عزيزاً بسعادة واطمئنان، ومن مظاهر الفهم أن يُقدِّم الأَوْلى فالأَوْلى في كل جوانب حياته فلا يقدّم غير المهم على المهم، ولا المهم على الأهم، وهذا ما يُعرف بفقه الأولويات، وهذا هو المفهوم من قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}.

عمل الصحابة

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على معرفة الأَوْلى من الأعمال، ليتقرَّبوا إلى الله تعالى به، ولهذا كثرت أسئلتهم عن أفضل وأحب الأعمال إلى الله تعالى، فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: أَيُّ الأعمال أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الصَّلَوَاتُ لِوَقْتِهِنَّ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».

وهذا يعلّمنا فقه الأولويات في الدين والدنيا، ومن الخطأ الذي يقع فيه بعض الناس الاشتغال بالسنن عن الفرائض.

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم الزوجة أن تصوم تطوّعا، وزوجها حاضر عندها أي غير مسافر إلا بإذنه، لأن حقه عليها أوجب وأهم من صيام النافلة.

وأيضا نرى الرجل يحج حجة الإسلام ثم نجده يحج ويعتمر مرات عدة ويصرف الكثير من الأموال، مع أن هناك مسلمين وقد يكونون من عائلته يموتون من الجوع.

ولنا في قصة عبد الله بن المبارك عبرة حين كان يحج عاماً ويغزو في سبيل الله عاماً آخر، وفي العام الذي أراد فيه الحج.. خرج ذات ليلة ليودّع أصحابه قبل سفره.. وفي الطريق وجد سيدة في الظلام تلتقط من النفايات لحماً ميتا..

فقال لها: ماذا تفعلين يا أمة الله.. إن الميتة محرّمة؟ فأجابته دموعها قبل كلماتها: أما سمعت قول الله تعالى: {.. فَمَنِ اضطُرَّ غَیرَ بَاغ وَلَا عَاد فَلَا إِثمَ عَلَیهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُور رَّحِیمٌ} إن الله قد أحلّ الميتة للمضطر.. أنا أرملة فقيرة وأم لأربعة أيتام واشتدّت بنا الحال ونفد مني المال وطرقت أبواب الناس فلم أجد للناس قلوباً رحيمة، فخرجت ألتمس عشاء لأيتامي الجائعين فوجدت هذه الميتة.. فتأثّر ابن المبارك وبكى وأعطاها المال كله الذي كان ينوي به الحج.. ورجعت أم اليتامى إلى بيتها سعيدة شاكرة.

وعاد ابن المبارك إلى بيته، وخرج الحجاج من بلده فأدّوا فريضة الحج، ثم عادوا، وكلهم شكروا عبد الله بن المبارك على همّته معهم في إرشادهم والحج معهم والدعاء لهم.

وقالوا: رحمك الله يا ابن المبارك ما جلسنا مجلساً إلا أعطيتنا مما أعطاك الله من العلم ولا رأينا خيرا منك في تعبّدك لربك في الحج هذا العام.

فعجب ابن المبارك من قولهم، واحتار في أمره وأمرهم، فهو لم يفارق البلد، ولكنه لا يريد أن يفصح عن سرّه، وفي المنام يرى رجلاً يشرق النور من وجهه يقول له: السلام عليك يا عبدالله ألست تدري من أنا؟ أنا محمد رسول الله أنا حبيبك في الدنيا وشفيعك في الآخرة جزاك الله عن أمتي خيرا... يا عبد الله بن المبارك، لقد أكرمك الله كما أكرمت أم اليتامى.. فخلق ملكاً على صورتك ليحجّ عنك.. كان ينتقل مع أهل بلدتك في مناسك الحج.. وإن الله تعالى كتب لكل حاج ثواب حجة وكتب لك أنت ثواب سبعين حجة...

ويروى أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ترك اعتكافه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما له من أجر مضاعف وعظيم، ليكلم رجلاً دائناً ليؤجل موعد السداد لدين متوجب على مديون فقير معسر..

كذلك نرى أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم يشدد في حق الجار ويرهب من أذى الجار، ويبيّن أنه أولى من الإكثار من النوافل:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله إن فلانة تصلي بالليل وتصوم بالنهار وتؤذي جيرانها، قال: «لا خير فيها، هي في النار»، وقيل له: إن فلانة تصلي المكتوبة وتصوم رمضان وتتصدق وليس لها شيء غيره ولا تؤذي أحداً. قال: «هي في الجنة..» ( رواه أحمد).

من هنا يعلّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن العبرة بالمعاملة والسلوك وليس بكثرة التطوع بالصيام والسجود.

فقه نفتقده

كل هذا يسمّى فقه الأولويات الذي نفتقده في سلوك الكثيرين من الناس من حاكمين ومحكومين في أيامنا.

فهل يُعقل أن يختلف المسؤولون على المناصب والكراسي، في الوقت الذي يئنّ الناس من الأوضاع المعيشية الصعبة التي تمرُّ فيها البلاد؟؟

وهل يُعقل أن يتصارعوا على وزارات وإدارات، في الوقت الذي تحتاج تلك الإدارات إلى خبراء متخصصين في تطوير الخدمات والتقديمات؟؟

أليس من الأولى تطوير شبكة الانترنت وخصوصاً في زمن الدراسة عن بُعد عبر برامج التواصل المباشر؟ كم من المرات يقطع الاتصال ويشوّش على الطلاب أثناء تعلّمهم؟؟

أليس من الأولى معالجة الطرقات التي أصبحت خطراً على الناس بكثرة حفرها وشدّة ظلمتها وانسداد مجاريها التي تطوف على المحلات والمؤسسات والأبنية؟؟

أليس من الأولى معالجة النفايات والاستفادة منها لتوليد الطاقة كما يحصل في كثير من البلدان؟؟

أليس من الأولى حل مشكلة إنقطاع الكهرباء المزمنة رغم الوعود الكاذبة؟؟

أليس من الأولى حل مشكلة السيولة المفقودة في المصارف والتي ساهمت في إنهيار مؤسسات وعائلات؟؟

أليس من فقه الأولويات كفاية الموظفين والعمال مادياً قبل الاهتمام ببناء الجدران وزخرفتها وتفخيم مفروشاتها؟؟

أليس من فقه الأولويات أن يجتمع المسؤول بموظفيه ويسأل عن أحوالهم وأوضاعهم ويخصص لهم وقتاً يشعرون بقربه منهم واهتمامه بمصالحهم؟؟

أليس هذا أولى من استقبالات واجتماعات لا فائدة منها إلا التصوير وتعبئة وقت فارغ وملء صفحات التواصل والأخبار بمواقف وتصاريح فارغة المضمون؟؟

غياب القدوة والضمير

في الحقيقة إن موضوع فقه الأولويات غائب عن مجتمعنا غياباً واضحا، أدّى إلى غياب القدوة والمسؤولية والضمير، وساهم غيابه في ضعف المجتمع والأسرة والمؤسسات.

ولذلك يتوجب على جميع الدعاة والخطباء أن يوجّهوا الناس إلى اعتماد فقه الأولويات في عباداتهم وأحوالهم ومعيشتهم، وأن يعتمدوا في مواعظهم الأولى فالأولى من مواضيع تلامس حياة الناس وتساهم في حل مشكلاتهم وتطوّر سلوكهم لينهضوا بحالهم وحال محيطهم.

وفي الختام..

أدعو نفسي وأدعوكم أن نطبّق فقه الأولويات في ديننا ودنيانا، وأن يكون إرضاء الله تعالى هو الأساس والأهم في سلوكنا، وأن نقدّم الأهم فالمهم فالأقل أهمية..وهكذا. وتجب علينا مراجعة اهتماماتنا، فلا نؤخّر ما حقه التقديم ولا نقدّم ما حقه التأخير، ولا نعظّم ما حقه التصغير ولا نصغّر ما حقه التعظيم، نسأل الله تعالى أن يفهمنا ويلهمنا العمل بفقه الأولويات في جميع جوانب حياتنا، وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 * المفتش العام في دار الفتوى