حين نقرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم «لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنّوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا»، ندرك بما لا يدع مجالا للشك أن المسلم الحق هو الذي يريد من وطنه أن يكون وطنا واعيا وإنسانياً وأفراده على بصيرة ووعي، وليس جاهلة أو مقلّدة وخاصة في الأمور الدينية.
فالتقليد الأعمى أو التبعية الجاهلة في أمور الدين والدنيا جريمة ضحيتها الأولى العقل الذي أكرمنا بها المولى تعالى، وضحيتها الثانية الإنسان الذي قَبِلَ بالتقليد، وضحيتها الثالثة المجتمع، بل قد تتطوّر هذه الجريمة في نفوس التابعين حتى تصبح مرضا اجتماعيا خطيرا له سلبيات نفسية وفكرية كثيرة.
أوهام وهلوسات
ومن سلبيات مرض التبعية العمياء أن هؤلاء «التابعين - الضحية» سيدخلون في نفق مظلم وأسود من الاعتقاد بالخرافات والأوهام كخطوة أولى، ثم يصلون إلى مرحلة تقديس الأشخاص واعتبار كل من يقلدونهم أشبه بالأنبياء والرسل (؟!)، كلامهم حق وطلباتهم أوامر دينية... ناسفين بذلك كل الأسس المطلوبة ومتغافلين عن قول الإمام مالك رحمه الله: «كل يُؤخذ من كلامه ويُرد إلا صاحب هذا القبر» وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم..
بل وأقولها صراحة أن هؤلاء التابعين قد يصلون إلى مرحلة التغييب العقلي الكامل، ثم بيع أو تسليم العقل إلى كل من يتبعوه... ليتحقق عليهم قول الله تعالى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}...
لا نقصد بكلامنا هذا إنكار دور العلماء الأجلّاء أو الدعاة الثقاة أو حتى الأشخاص المسؤولين الأكفّاء الذين قدّموا الكثير، ولا نعني أيضا رفض الثوابت أو الأصول، وإنما نقصد في الدرجة الأولى توضيح خطورة أن يكون الإنسان بائعا لفكره ومقلّدا جاهلا في كل أمور دينه ودنياه دون أن يتعلّم أو يتدبّر أو يتفقّه أو يعمل عقله في أمور الحياة.
إنقلاب الفكر
إن البعض في بلادنا من حولنا وبكل أسف لم يتبعوا فلانا أو علّانا فحسب، بل أصبحوا يفتخرون بأنهم أتباع وبأنهم لا يفكرون في أي أمر وإنما فقط.. يطبقون نتاج فكر المتبوع..؟!
إن سألتهم.. أو حاورتهم... أو تناقشت معهم... كان الجواب... «هكذا قال لنا فلان»..؟!
إن حاولت أن تدخل معهم في دردشة فكرية أو علمية حول أي موضوع.. صدّوك مستنكرين بقولهم: «علّان يقول كذا ونحن علينا الطاعة وفلان ولي أمرنا»..؟!
حتى أصبحت بلادنا مليئة بـ «الببغائيين» الذين لا يسمعون ولا يرددون إلا ما يُلقى على أسماعهم وإن كان خطأ أو فسادا أو ضلالا..؟!
ووصل الأمر عند البعض أنه لا يقول ولا يفعل ولا يقدم على أي خطوة إلا بعد مراجعة من يقلّد أو يتبع ليس خوفا من الوقوع في الخطأ أو أخذا للمشورة من أهل الخبرة، وإنما - وهنا الكارثة - خوفا من الوقوع في الكفر...؟! أي أن الاتباع لفلان أو علان أصبح دينا...؟!
والعجب العجاب.. أن هذا التابع هو نفسه الذي قد نراه بعد فترة، ينقل البندقية من كتف إلى كتف، أو ينقلب علنا ودون أي حرج على من كان يتبعه ويناصره ويقول فيه القصائد والأشعار مدحا وثناء، فقط لأن مصلحته أصبحت خارج ميدان التبعية لفلان..؟!
فبالله عليكم... هل ينتج هذا الفكر الأعوج وطنا سليما وقويا يعيش أبناؤه في رقيّ ووعي وأمن وأمان واستقرار...؟!
هذه العقول المزيفة التي أصبحت تجارة رائجة في بلادنا، هل تستيطع أن تقدّم لأفراد الوطن المستقبل المشرق الذي نقول من خلاله لأبنائنا اغتنموه واعملوا لأجله..؟!
نفضة شاملة
إننا بحاجة - وعلى كل المستويات - إلى إعادة تصويب البوصلة عند هؤلاء، أولا حفاظا على مستقبل البلاد من خطورة التبعية العمياء التي تحوّل الناس إلى ما يشبه «آلات ميكانيكية» لا تعمل إلا وفق ما يبرمجها عليه المستخدم..
نحتاج إلى إلى ثورة فكرية واجتماعية ووطنية تعيد للإنسان أولا كرامته ومكانته حتى يستطيع أن يدرك قيمة نفسه وقيمة عقله وقيمة أنه إنسان مكرّم ثم يعمل بمقتضى هذا التكريم...
ونحتاج أيضا إلى رفض علني لكل الأشخاص الذي يستعبدون الناس فكريا أو عقليا أو حتى دينيا لتحقيق مصالحهم ومصالح من لف لفهم وسار في طريق «تمسيح الجوخ» لهم وتقبيل الأيادي...
وإلا فنحن نؤسّس بأيدينا لأشباه «اللات والعزة» في بلادنا... ولكن هذه المرة سيكونون على صورة بشر... يمشون بيننا فوق التراب ولكنهم يتنعمون بمقدراتنا.. بينما نحن نبحث عن ذرّة كرامة فلا نجد إلا الذل والهوان..؟!
bahaasalam@yahoo.com