بيروت - لبنان

اخر الأخبار

3 كانون الأول 2019 12:04ص هل ما يزال الفكر الإسلامي أسير الثقافة الشفوية؟

خطوة رتَّبت آثاراً سلبية.. أوّلها تحويل الناس إلى سامعين لا إلى قارئين؟!

حجم الخط
طارق أبو السعد*

المسلمون في ارتباطهم بالدِّينِ الإسلامي نوعان؛ الأول: عموم المسلمين، وهم الأغلب، والثاني: العلماء وهم أقلّية.

ويمارس المسلمون شعائر دينهم عبر ما يصل إليهم مِنْ أفكار ينتجها العلماء، ومنتج العلماء يتنوّع بين فتاوى وآراء فكرية ومواعظ ورقائق، إضافة إلى اجتهادات العقل الإنساني في تفسير العالم، هذا المنتج الفكري (الفكر الإسلامي) يعدّ رسالة مستقلّة لها تأثيرها في المسلمين، فكراً وسلوكاً، فهو يحدِّد لهم معيار الحكم على الأشياء والأحداث والأشخاص.

ورسالة الفكر الإسلامي، مثل أيَّة رسالة، يجب أن يكون لها مُرْسِل وهم العلماء، ومحتوى وهو مضمون المنتج الفكري البشري سواء (العلمي أو الديني)، ومُسْتَقْبِل وهم عموم المسلمين، ووسيلة تنقل الفكر إلى الناس، وفي العصور الأولى للإسلام، لم يكن لدى المسلمين، من معارف وعلوم، الكثير، ولم تكن الكتابة قد انتشرت فاستخدم الأوائل السرد الشفهي، سواء كانت دروس العلماء في المدارس أو الخطباء على المنابر.

وتمحورت رسالة الفكر الإسلامي، في البداية على نقل حياة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام واستخلاص العبر، ثمّ مع انتقال الأوائل إلى محاضن حضارية مختلفة تطوّر الفكر الإسلامي إلى شرح كتاب الله تعالى، وإنزال الأحكام على أرض الواقع، ورغم اتساع المنتج الفكري للمسلمين، إلا أنّهم احتفظوا بالسرد الشفهي كوسيلة لنقل منتجهم إلى الناس.


طارق أبو السعد

منع التدوين بداية

فَضَّلَ الأوائل السرد الشفهي، باعتباره أسهل وأشهر الوسائل المتاحة لتوصيل الفكر إلى الآخرين، رغم أنّ الكتابة، بمشتملاتها، من كُتّاب ونُسّاخ كانوا موجودين؛ فالتدوين الرسمي الحكومي بدأ مبكراً في تاريخ المسلمين، فقد بدت الدولة المسلمة في عهد الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في حاجة إلى ضبط أمورها؛ لذا قرر بدء التدوين الرسمي، وإنشاء الدواوين في شهر محرم عام 20 للهجرة، لكنّه، في الوقت نفسه، أمر بمنع التدوين العلمي للأحاديث!؟

وتسبّب منع تدوين العلم في بداية الدولة المسلمة إلى اعتبار أنّ نقل العلم الشفاهي تدويناً أمر مكروه شرعاً، مما كان له أثر كبير في ضياع الكثير من «الفكر الإسلامي»، حتى إنّ تلاميذ التابعي سعيد بن المسيب، ندموا على أنّهم لم يدوّنوا علمه، فقد كان ذا علم غزير ضاع معظمه، يقول تلميذه يحيى بن سعيد «أدركت الناس يهابون الكتب، ولو كنا نكتب يومئذ لكتبنا من علم سعيد ورأيه شيئاً كثيراً» (طبقات بن سعد 5/104)؛ أي كانت هناك رهبة وهيبة بين الأوائل من تدوين العلم وكتابته، وبهذا ظلّ الفكر الإسلامي أمانة في صدورٍ لا يمكن أن تحفظه، كما خرج من أصحابه، وتعتريه دائماً الزيادة والنقص، ولم تقتصر مشاكل الفكر الإسلامي على زيادة الحفّاظ أو نقصهم.

ومشكلة السرد الشفهي؛ أنّه يُحَفِّز الذاكرة فحسب، ولا يسمح لكافة العمليات العقلية بالعمل، مثل النقد أو المقارنة، فأصبح الفكر الإسلامي أسير استظهار النصوص والقدرة على التذكر، وانتشرت مقولة «مَن حَفِظ المتون حاز الفنون»، وأصبح الحفظ والتلقي الشفهي مهيمناً على الفكر الإسلامي، وتقدّم البحث في اتصال السند على البحث في منطقية المتن، كما حدث مع علم الحديث.

والسرد الشفهي غالباً ما يخاطب الوجدان، لا العقل؛ لذا كان المنتج الفكري رهين القوالب البلاغية، فانشغلوا في صبّ الآراء والأفكار في قالب من السجع، مما أعاق تدفق الأفكار ومنع تنوعها وصعّب فهمها، لسوء العرض مثال منتج الفكر الإسلامي الخاص بالعقيدة.

والسرد الشفهي يحتاج إلى خطيب مُتَمَكِّن من الأداء الصوتي (الأداء التعبيري)، فأصبح المعنى ومدلوله محكومين بنبرات صوت الخطيب، ولأنَّ كُلّ خطيب أو واعظ له أسلوبه الشفهي، تعدّدت طرقه وأساليبه بتعدّد الخطباء، ومن ثم تعدّدت الدلالات والمعاني للمفهوم الواحد، مما جعل غالبية الفكر الإسلامي المبكر مشتتاً فوضوياً، كما يميل السرد الشفهي للمبالغة، سواء في تقدير العقاب أو الجزاء، مما منع طرح قضايا وإشكاليات دينية حقيقية تحتاج إلى نظر وكتابة ودراسة.

من مخاطر الفكر الشفاهي

والسرد الشفهي يحتاج إلى مضمون يصلح للأداء الجماهيري، نظراً إلى ما يحتاجه الوُعّاظ من حكايات تلهب خيال المستمعين وتخدر عقولهم، فظهرت الحكايات الخرافية في الفكر الإسلامي، والقصص ذات الحبكة التي تعجب المستمعين، مثل؛ الغرائب والعجائب، والمعرفة غير العقلية، غير المنضبطة، فأنتج الفكر الإسلامي حكايات آخر الزمان وتناقلتها الأجيال، هذه العجائبية والغرائبية صارت مرضاً ملازماً لكلّ خطيب في كل العصور، فلا بدّ من أن تتضمّن الخطبة على حكاية عجيبة وغريبة ومحببة للمستمع، مما أثر في الفكر الإسلامي الذي تقبّل وجود هذه الحكايات دون نقد أو تمحيص، تحت زعم أنّ السند متصل دون أيّة محاولة لعرضها على العقل النقدي.

ومن المثير للدهشة؛ أنّ هذه الحمايات تم تدوينها في كتب الأوائل من كتاب الملاحم والفتن لابن كثير، الذي تضمّن كثيراً من الأحاديث التي لم يقبلها المحدثون أنفسهم، ورغم هذا تمكّن الخطباء والوُعّاظ أصحاب الشفاهية من ضخّ لتلك الحكايات في خطبهم وفي دروسهم، فاستقبلها جمهور المسلمين بالاستحسان والقبول، مما جعلها حيّة وغضّة إلى اليوم، هذه الحكايات كان لها الأثر السلبي في العقلية العربية، التي أصبحت تتقبّل الفكر الخرافي على أنّه حقائق، لمجرد أنّها وردت على ألسنة السابقين، أو أنّهم وجدوها مدوّنة في كتبهم.

ثم تطوّر المسلمون وأجبرتهم الحياة على اللجوء للتدوين، أو ما يسمّيه العلماء «تقييد العلم»، لكنّ التدوين كان وريثاً للفكر الشفهي، فتأثر بالزخرفة اللغوية، وانصرف العلماء إلى التعليق وشرح المتون، وشرح شرح متون السابقين، وحتى هذا التدوين لم يتجاوز نطاق الصفوة، ولم يصل بالمنتج الفكري للجماهير، ولم ينقل الفكر الجماهيري خطوة أبعد من التمتع بالاستماع للخطبة، أو التفكّه بحكايات نهاية العالم، التي وردت في كتب الأوئل، وظلّ الخطباء المفوّهين متصدّري مشهد نقل الفكر الإسلامي للجماهير من على المنابر.

انتشار الكلمة المكتوبة

ومع دخول المطبعة والطباعة في العصر الحديث أصبح الفكر الإسلامي محفوظاً في صفحات الكتب، ومتاحاً أكثر من ذي قبل، ثم صارت الكلمة المكتوبة هي الأكثر انتشاراً من الكلمة الشفاهية، نظراً إلى انتشار الكتب الدينية والمجلات الإسلامية في مطلع القرن العشرين، وصارت هي الوسيلة التي ينقل بها العلماء منتجهم الفكري إلى الجماهير، فتعرّفت إلى منتجات السابقين مباشرة، دون وسيط من الخطباء، أو حاجة إلى استظهار النصوص.

بذلك انتقلت موضوعات كانت محبوسة بين دفَّتي الكتب إلى الإصدارات الإسلامية، وبالتالي إلى أفواه الخطباء، فظهرت قضية الإسلام والحكم، وقضية ترجمة القرآن الكريم وقضايا الإصلاح الديني، سواء كانوا معه أو ضدّه؛ فالشاهد أنّ الكلمة المكتوبة هي من دفعت أصحاب الشفاهية لتبنّي قضاياهم مع الجماهير.

وظلّت الكلمة المكتوبة لها السيطرة على مسار قضايا الفكر الإسلامي، إلى أن أُنشئت إذاعة القرآن الكريم بمصر، وهي مختصة بإذاعة القرآن الكريم والبرامج الإسلامية، بدأت في بثّ إرسالها، في 29 آذار (مارس) 1964، ثمّ دخول التلفاز على الخطّ في نقل خطب الشيوخ الوعاظ إلى الجماهير، ولعلّ فترة سبعينيات القرن العشرين شهدت عودة سيطرة السرد الشفهي  وانجذاب الناس إليه، ولمع في تلك الفترة الشيخ عبد الحميد كشك، بخطبه المسجلة على «أشرطة الكاسيت»، والشيخ محمد متولي الشعراوي، ببرنامجه المشهور لتفسير القرآن الكريم، تفسيراً شفهياً، كلّ أسبوع، بعد صلاة الجمعة، ثم أصبحت خطبهم ودروسهم الشفاهية تكتب وتطبع مما يعني أنّ الكلمة المسموعة هي التي وجهت الفكر المكتوب إلى تبنّي قضايا الوعّاظ.

في هذه الفترة؛ يلاحظ أيضاً انتشار كتب مثل؛ عذاب القبر وأهوال يوم القيامة، التي هي أقرب إلى المنتج الخطابي الشفهي العاطفي، في مقابل ضعف انتشار كتب مالك بن نبي، مثلاً، التي تخاطب العقل، وعادت أساليب الخطابة للظهور وطبع الفكر الديني الإسلامي بطباعها، صحيح أنّ الخطباء تخلّوا عن الزخرفة البلاغية مقابل النزوع إلى النكات (والقفشات المضحكة) في خطبهم جذباً للمستمع.

ثم تطور الخطاب الشفهي المسجل على «أشرطة الكاسيت» إلى الخطاب الشفهي، عبر القنوات الفضائية، وكاد أن يندثر تأثير الكلمة المكتوبة التي تخاطب العقل، بل أصبحت الكتابة تابعة للموضوعات التي يختارها الخطباء في برامجهم، وصار الفكر الإسلامي ينتج ما يريده الجمهور، لا ما يحتاجونه، وشجع هذه المكاسب التي عادت على الوعاظ في القنوات الفضائية إلى أن يسير كثيرون في ركاب الفكر الشفهي، عبر القنوات الفضائية، فانتشرت خطب الشيخ محمد حسان ومحمد حسين يعقوب، في حين لم تتلقَّ الجماهير أيّة فكرة عن المشاريع الفكرية المعاصرة، مثل المشروع الفكري لمحمد عابد الجابري.

واليوم، ونحن نقترب من تخطي العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، نجد أنّ الفكر الإسلامي ما يزال أسير الخطباء والجماهير، وكلّ من يحاول أن يقدم فكراً إسلامياً مستنيراً، يستند إلى قراءة واعية لعمق التراث ويعيد بناءه بما يناسب مرحلة ما بعد الحداثة، يقف أمامه الخطباء المشاهير، يهاجمونه متحصنين بجماهيريتهم وشعبيتهم ضدّه، أما أخطر آثار الفكر الشفاهي على الناس أنّه جعلهم يستمعون ولا يقرأون.

* كاتب وباحث مصري