لا يخفى على أحد الضغوطات الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي يشهدها لبنان وقد فرضت تحديات على شرائح المجتمع اللبناني كافة. ففي العام المنصرم، بدأت الصرخة تعلو شيئًا فشيئًا لجهة عدم القدرة على تأمين العملة الصعبة لاستيراد ما يلزم من محروقات، أدوية، مواد غذائية وغيرها. إلى حين أن وجد اللبناني نفسه أمام سعرين لصرف الدولار، وأمام قيود مصرفية جعلت منه شحّاذًا يشحذ على أبواب المصارف جنى عمره وشقاء حياته.
فقد بات المستورد مكبّل اليدين غير قادرٍ على تأمين المستحقات المالية المطلوبة لاستيراد ما يلزم من احتياجات الشعب اللبناني. فبدأت الإضرابات تتنقّل من قطاع لآخر لرفع الصوت لعلّ من يسمع ويجيب، بدءًا من المحروقات حيث أعيد مشهد الطوابير لاستذكار مشاهد الحرب الأليمة، مرورًا بأزمة ربطة الخبز التي تحمي الفقير من جوع الحياة القاسية، لتصل إلى القطاع الصحي وتدقّ أبواب كلّ مريض ومتألّم يرى في حبّة الدواء أملاً بالعيش والبقاء.
أمام هذا الواقع، استغلّ كبار التجّار والرأسماليين وجع المواطنين ليعمدوا إلى زيادة أرباحهم عبر رفع أسعار المواد الإستهلاكية، ضاربين بعرض الحائط ما يعاني منه اللبناني من مصاريف حياتية جمّة يرزح تحتها كأقساط المدارس والجامعات، والطبابة، وفاتورتي الكهرباء، وفواتير المياه، وغير ذلك... استغلّ هؤلاء الأزمة المالية والاقتصادية الحاصلة لرفع ما تيسّر من أسعار مواد غذائية واستهلاكية إلى أضعاف سعرها الحقيقي دون حسيب أو رقيب، بعدما كانوا في فترات سابقة عمدوا إلى الخطوة ذاتها عند إقرار سلسلة الرتب والرواتب في العام 2017.
هو التضخم "المتسارع" الذي يفرض نفسه على الأسواق اللبنانية، بحيث إن ارتفاع الأسعار بمعدلات تزيد عن 10% خلال فترة زمنية بسيطة، في ظلّ صعوبةٍ تواجه أجهزة الدولة في إعادة الإستقرار النقدي، الأمر الذي يؤدي إلى انعدام الثقة بالليرة اللبنانية والتهافت لاستبدالها بعملات أخرى ذات ثقة. فأمام هذا الانهيار في قيمة العملة المحلية وانخفاض قدرتها الشرائية، أضحى المواطن أمام حتميّة تقليص حجم سلّته الاستهلاكية، حيث تستحوز المواد الغذائية القسم الأكبر منها، لتتقلّص سلعًا وخدمات أقل اضطرارًا وتنعدم أخرى.
لا يقف الوضع عند هذا الحد، ففي ظلّ الركود الاقتصادي الحاصل، وانعدام سبل الإنتاج نظرًا لضعف الطلب وارتفاع التكاليف، وجدت الشركات والمؤسسات الصناعية والخدماتية نفسها مضطرّة لأن تستغني عن بعض العاملين لديها لسبب الإقفال، أو لاستبدالهم بأجانب أقل أجرًا، أو في أفضل الحالات تمّ الاستعاضة بدوام جزئي مقابل شبه بدل مالي. هذا الأمر، ضاعف حجم الأزمة بحيث ارتفعت نسب البطالة وتحديدًا في صفوف الشباب وانعكس بدوره سلبًا على القدرة الشرائية. في قراءة سريعة لأرقام البطالة، يتبيّن أن هذه النسبة بدأت تتفاقم منذ العام 2012 نتيجة الهجرة السورية وما سبّبته من ضغوطٍ على اليد العاملة اللبنانية حيث بلغت 12%، لتتفاقم أكثر فأكثر في العام 2016 لتلامس حدود 35%، لتبلغ ذروتها إثر الأزمة الاقتصادية في نهاية العام 2019 ليصبح أكثر من نصف القوى العاملة عاطلة من العمل.
إزاء ما يحدث، وقع الشباب اللبناني ضحية عدم قدرته على تسديد سنداته المصرفية التي لجأ إليها لشراء سقفٍ يأويه، أو سيارة، أو تأسيس عمل، أو غير ذلك... لتكون قروضًا متعثّرة تجعل من صاحبها رهينة التشرّد والفقر والحرمان. كما وقف عاجزًا عن دفع أقساط المدارس والجامعات، هاملاً صحته نظرًا لعدم قدرته على سداد الفاتورة الاستشفائية. فقد ازدادت نسبة الفقر التي باتت تنخر أكثر من نصف الشعب اللبناني وتهدّده بمعيشته وحياته ووطنه.
ما عسا هذا اللبناني أن يفعل؟ فهو واقعٌ بين "شاقوف" الغلاء الفاحش الذي طال أروقة ورفوف المحلات، وبين "شاقوف" البطالة التي أفقدته مدخوله وجعلت منه إما شحّاذًا على أبواب المصارف يتوسّل تعبه المسلوب، أو شحّاذًا على أبواب السفارات يطلب بطاقة هجرة تأويه وعائلته من برد الفقر والحرمان.
بئس الزمن الذي غدا فيه تسليع القيم الإنسانية والمبادئ حقًا مشروعًا يباع بأغلى الأثمان، بئس الزمن الذي يجعل المواطن غريبًا في بلده غير قادرٍ على السكن والتعلّم وحتّى الاستشفاء. بئس الزمن الذي غدا فيه تجار الهيكل لا يرون في احتياجات الإنسان إلا الكسب المادي.
أمام مرارة الواقع وسخريته، فالوقوف على الأطلال لا ينفع، وتبادل الإتهامات وتقاذف المسؤوليات إلى ما آلت إليها الأمور لا تنفع، كما أن تقاسم وتناتش الحصص والمقاعد لا تنفع، لا بل يجدر نسج سياسات اقتصادية واجتماعية واقعية لا أوهامًا دونكيشوتية قادرة لأن تُخرجَ المواطن اللبناني من كبوته وأن تجعل من لبنان بلدًا منتجًا يحتضن أبناءه بعدما شتتّهم الغربة.
لا تعيدوا تاريخ لبنان المأساوي إلى الحاضر، بل خدوا العبر منه لتبنوا وطنًا كريمًا لكل أبنائه.