بيروت - لبنان

اخر الأخبار

5 تشرين الثاني 2019 12:06ص «العرض الأخير» للدكتور قاسم قاسم: المُفكّر السينمائيّ وحوار الدلالات

غلاف الكتاب غلاف الكتاب
حجم الخط
إلى أنْ يبلغَ الحوارُ منتهاهُ المُمتِع، يُواصلُ الدكتور قاسم قاسم في كتابه «العرض الأخير: قراءة في الدلالات السينمائية» الصادر حديثاً عن دار بيسان للنشر والتوزيع في بيروت في طبعته الأولى: أيلول 2019، ترتيبَ معالمِ التّجديد لجمالياتِ العملِ السينمائي على اتّساعِ خريطةِ الفنِّ السابعِ لثلاثةٍ وعشرين فيلماً عالمياً وعربياً ومحلياً اختصرها «العرض الأخير» بما هو القراءةُ الأخيرةُ للعملِ السينمائيِّ التي ألبَسَها د. قاسم توليفةً حواريّةً جديدةً يُعتَدُّ بها قبل استنساخها وإخراجها، منفتحةً فكرياً على الذائقةِ الفنيّة للقارئ العربي بطريقة مختلفة رائقةِ الوضوح، وإضافةً فنيّةً ماتعةً إلى ما كانَ قدْ رسَخَ في ذِهْنِ المُشاهِدِ مِنْ كُلّ إنتاجٍ بعدَ عرضِهِ الأوّل في دور السينما، ومن ثمَّ العبور إلى تكاملِ النُّظُمِ على مستويي القراءةِ والمُشاهدَة ذهنيّاً وبصريّاً - بعد اختياره المُوَفَّق للأفلام - التي ينهضُ معظمها على عَقْلَنَةٍ تقدُّميّةٍ للعواطف الإنسانية وإنْ لمْ يُقْرِنْ تلكَ المستويات بالاشتغال السيميائي الذي لا بُدَّ منهُ لاستنطاقِ فِكرةِ الدَّلالات - التي تصدّرت عنوان الكتاب – دونما اضطراب.

وعلى امتداد الشَّغَفِ المُتَبادلِ بين الدكتور قاسم قاسم وتلميذتهِ سُلافة بالقيمةِ الابداعيةِ لكُلِّ فيلم على حِدَة، تدرَجَّتْ الحواراتُ البالغةُ الاحساس بالتّجربة الإنسانية في جهدٍ بيبليوغرافي مُثمِر وغنيّ بالتفاصيل الدقيقة والتي طبعَتْ الخطوط الفنية لأبعادِ الرؤية السينمائية: من النَّص إلى إدارةِ المُمثّلين فالموسيقى الخَلّابة والتَّكوين التشكيلي (صورة، ألوان، الخ...) مع استثمار التقنياتِ الفنية المتطوّرة وإعادةِ إلتقاطِ وتدويرِ ما انْفلَتَ منها نقداً نوعياً بحياديةٍ مُتقَنَة تخدمُ تكثيفَ الفكرةِ المُجرّدة للفيلم تدريجياً منذُ بدايته حتى الوصول إلى تحقيقِ التَّحفيز الذِّهني والتَّأثيرِ البالغ في المُتَلَقّي، وتُطلِقُ إضافةً أكاديميةً مُضيئة وقيّمَة لِكُلّ باحثٍ في هذا الفنّ، مع احترامِ المُعالَجَةِ السينمائية للنصوص الأصلية فيها.

وعليهَ فإنَّ الاستدلال بذلكَ الاحساسِ الجمالي لدى كِلا المُتحاوِرَيْن لصياغةِ تفسيرٍ وُثُوقيٍّ لِلُّغَة السّينمائية كحديقةٍ خلفيّة للخطِّ البياني التقييمي لفنِّ المنظورِ عينِه بشكلٍ مُطَمْئِنٍ وصريح، وإنْ بِمَنظورٍ شخصيّ عفويّ أحياناً دونما قلَق، يتناغمُ مع تلكَ الفكرة النقديّة التي تستجيبُ لمقاربةٍ اجتماعيةٍ مُشتَرَكَة تُشاطِرُ المُشاهِدَ الغايةَ الموضوعيَةَ لها والتي بَدَتْ في جوانب متعددةٍ في غيرِ عملٍ سينمائيّ مما تناوله يراعُ الكاتب: ففي حديثه مثلاً عن فيلم «الكيت كات» للمخرج داوود عبد السيد المُنتَج عام 1991 يُقرّرُ د. قاسم سُمُوَّ الرسالة الإنسانية لهذا العمل من بينِ مجموعةِ الرسائل التي يحمِلُها، فمنها ما هو سياسي، ومنها ما هو بالضرورة فكري اجتماعي كمقولةِ تحدّي العَجْز من خلالِ «صانع البهجة» الشيخ حسني بطلُ الفيلم الذي يرفضُ الاعترافَ بأنهُ أعمى من خلالِ تصرفاته اليومية كالمُبصِرِ تماماً!

ولا ينفكُّ يحاولُ قاسم امتلاكَ ذاكرتِنا الجَمْعيّة من كل الجهات والنوافذ ممسكاً بأطرافها بغنًى مفرداتيّ يخدمُ استقراءَ هذا الفيلم أو ذاك بما يضيءُ الزوايا الايحائيّة المُغْفَلَة نقدياً والتي تتجاوز مجرد مشاهدته إلى آفاقِ الواقع الذي نبتَتْ فيهِ فكرةُ هذا الفيلم، والغوصِ في ماهيّة أهدافه وتأثيراتها من خلال ديناميّة حواريّة ثرّة هي ثمرةُ الرأيِ الواحدِ للكاتب، المتقابلِ حيناً بينَ سؤالِ العارف (سلافة) وَرَدِّ المُدرِك (الكاتب)، أو المتكاملِ أحياناً بينهما كاستنباتِ فكرةٍ ما بَيّنَةٍ، ثُمَّ تَمَثُّلُها بما يستغرقُ مروحةَ الأفكار البنّاءة التي يصدُرُ عنها كلُّ عملٍ سينمائيّ بين دفَّتيّ الكتاب.

وإذ يأخذنا الكاتبُ بين مقاهي بيروت العريقة والمُتجدِّدَة لا تبدو مُهمّته سهلةً في التقاطِ اللحظة السينمائية إنّما شاقّة لا شكّ، فيها إِعمالٌ مُجهِد لممكِناته التحليلية وفاقَ رُؤيتِهِ الفنية دون الاتكاء على سخاءِ الحظِّ بما جادتْ به روحيّةُ كُلِّ عَمَل، حسبُهُ في كُلِّ ذلك تأويلٌ جوهريٌّ للدلالات كطوقِ نجاةٍ فكريٍّ لنا، ودونَ امتياحٍ سيميولوجيٍّ من تلك الدِّلالات، في حواراتٍ أسبوعيّة يُطعّمُها بنكهةِ اتصالٍ وجدانيّ مَرِنَة، عَقَدَ أَوجَ يراعهِ فيها على الاهتمامِ بجمالياتِ السينما مع المرأةِ التي كانتْ تلميذته النّشيطة من قبل والتي نضجَتْ فأصبحَتْ ناقدةً فنيةً سينمائيةً، ثمرَةَ دَأْبِها، رُبّما على ما قدَّرهُ الدكتور قاسم وتعمَّدَ إخبارنا به في نهاية كتابه، وربّما مُدْنَفاً بفيضِ القُبُلاتِ المُتناثرةِ خلالهما بينَ أوّل لقاءٍ لَفَّهُما وآخرِه.



حسام محيي الدين

hmouhieddine@gmail.com