من تراث أهل بيروت التي اعتادوا إقامتها باحتفالية شبه مقدّسة وسيمفونية رائعة تعزف في كل يوم، هي شرب القهوة الحلوة عند الصباح، فلا يبدأ النهار عندهم بغير فنجان القهوة الحلوة. تُغلى المياه مع السكر أولا حتى ينعقد قليلا ثم يوضع البن بمقدار، بعد ذلك لا تعود تُغلى فتحتفظ القهوة بوجهها كوردة تُسكب في الفنجان ثم ترشف رشفا بكل حب وحنان مع كلمة شكر للّه الذي أبدعها و للفنانة التي صنعتها، وتُشرب القهوة بالراحة والهدوء ولا تُستعجل، فالجميع في صمت في حضرة المقدّس وكأنهم في محراب صلاة.
يبدأ عزف سيمفونية القهوة بعد الظهيرة من تلك الأيام بتحميص البن في «المحمص» الذي هو وعاء أسطواني الشكل له طاقة تفتح وتغلق ذو سيبة ومسكة ليدار بها، يوضع فوق بابور الكاز بعد أن يوضع البن الأخضر بداخله فوق النار ويتوالى فتح الطاقة الصغيرة لتفقّد إستواء حبات البن بين الشقرة والسمرة حسب المزاج والمشتهى والرغبة، فتخرج رائحة البن العطرية التي تملأ أجواء المكان فيتنشّقها الحضور بالصلاة على النبي، وبعد الإنتهاء من «التحميص» تفرد حبات البن التي ما زالت تبعث عطرها على شرشف أبيض لبعض الوقت كيما تبرّد قليلا، ثم تبدأ عملية الطحن بالمطحنة النحاسية الأسطوانية التي يتداول مسكتها أفراد العائلة من الكبير إلى الصغير، فعملية الطحن هي متعة للجميع يشاركون فيها، ثم يوضع البن المطحون في «المرطبان» الزجاجي إستعدادا لفنجان القهوة بعد العصر لمضافة الجارات اللواتي يفضّلن حلوها ظاهرا على غير مزاج الرجال الذين يحبونها متوسطة الحلاوة.
كانت تلك الإحتفالية تقوم في كل بيت بيروتي، وكانت عدّة تحميص البن وطحنه واجبة الحضور مع جهاز العروس، وصنع القهوة هي على رأس الدروس التي يجب أن تكون العروس قد أتقنتها فيجري اختبارها يوم الخطبة.
فيوم غاب عن بيوتنا المحمص والمطحنة وفنجان القهوة والبن الطازج ضاعت منا لذّة الحياة ورغد العيش.
محمد صالح أبو الحمايل