بيروت - لبنان

اخر الأخبار

20 آذار 2020 12:00ص اللغة في معترك الحضارة والحداثة (2/2)

حجم الخط
د. عمر الطباع

< أثر «التوقيف» في واقع اللغة:

- مرد مذهب ابن فارس في «التوقيف» الآية القرآنية: (وعلّم آدم الأسماء كلّها). وتفسير ذلك، كما يقول ابن عباس: «ان الله علّم - آدم - الأسماء كلها، وهي هذه التي يتعارف عليها الناس من دابة وأرض وسهل..» وقد تجاور ابن فارس مسألة «التوقيف» في اللغة إلى «التوقيف» ولقوله تعالى في سورة «العلق»: (إقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم)، وقوله أيضاً: (ن، والقلم وما يسطرون).

- أما أبو جنّي فليس على مذهب ابن فارس، لاعتقاده بأن اللغة اصطلاح وتواضع، وأن أصل اللغات جميعاً إنما هو مأخوذ من الأصوات على اختلافها من مثل دويّ الريح، وخرير الماء.. ومع هذا، فعلماء العربية يجمعون على إجلال اللسان العربي، ولا يرفضون «التوقيف» رفضا قاطعاً لأنها اللغة التي انزل بها الوحي على النبي، لقوله تعالى في سورة الشعراء: (وإنه لتنزيل رب العالمين، نزّل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين).

< موقف «المحافظين» من اللغة:

فاللغة العربية في نظر «المحافظين» ليست جليلة في قدمها وحسب، بل هي منيعة ولا يلحق بها ضعف أو وهن ولا يجوز المساس بها أو النيل منها.. لأنها لغة الوحي والتنزيل. ويُعزّز هذا الاتجاه ما جاء في الحديث الشريف من ضرورة صيانة اللغة وحفظ اللسان من اللحن، واعتبار من يلحن في لسانه ضالاً. يذكر ابن جنّي في «الخصائص»: أن النبي قال لرجل وقع لسانه في اللحن: «أرشدوا أخاكم فإنه قد ضلّ»، وقال أيضاً: «رحم الله امرأ أصلح من لسانه».

بهذا الأسلوب يبرّر هذا النفر من أهل العربية رفضهم لأي شكل من أشكال الإصلاح في اللغة لأنها بطبيعتها واصالة ماهيتها الناشئة من روابطها الوشيجة بالدين وكتابه الكريم، متقدّمة على سائر اللغات. وقد بات كل تُصوّر في «عصرنة» اللغة وتخفيف وطأة قوانينها وقواعدها عند هذه الفئة المتشددة يُجسّد مظهراً من مظاهر الضلال، لأنه تنازل عمّا خص الله به هذه اللغة من الأفضلية. يروي القلقشندي عن الفرّاء قوله: وجدنا للغة العرب فضلاً على لغة جميع الأمم اختصاصاً من الله تعالى وكرامة أكرمهم بها، ومن خصائصها أنه يوجد فيها من الإيجاز ما لا يوجد في غيرها من اللغات.

< الأمم تمجّد لغاتها:

ربما قلّل بعض الباحثين من خطورة تمجيد العرب للغتهم وأثر ذلك في بطء إذعانها لقوانين الصيرورة، بسبب رسوخ ظاهرة إجبار اللغة وتعظيم شأنها في تاريخ سائر الأمم، وهكذا لا يغدو العرب في هذا المضمار بدعاً بين الشعوب ما دامت كل أمة تشيد بلسانها وترفع من مكانة لغتها، ولا سيما عندما تكون محاطة بأمجاد تاريخية أو أدبية أو أيديولوجيات ذات شأن. والى مثل هذا الرأي يذهب إبراهيم السامرائي حيث يقول: ألفت الأمم كافة لغاتها.. حتى أدّى بها الأمر إلى الإعجاب الذي تجاوز حدّ المعقول. وقال كل يقدّم لغته ويفتخر بمجدها الأثيل، وانها باقية على الدهر، فزعم الصينيون ذلك، وادّعى الأرمن أن لغتهم صاحبة الشرف وأن اللغات الأخرى فروع عليها.. وزعم العبرانيون أن العبرية هي اللغة الأولى، وأن الله قد علّم آدم هذه اللغة الشريفة.. وجاء الأراميون فنادوا بشرف لغتهم وأنها كانت لغة السيّد المسيح وأمه العذراء، واعتقد الأغريق أن لغتهم ذات شرف ومجد عظيمين وانها لغة الحكمة، وأنها خلاصة ما يصل إليه العقل البشري...

< حدود الإعجاز في اللغة:

والذي يتبادر الى الذهن من كلام الباحث إبراهيم السامرائي وغيره من الدارسين بين علماء العربية، اعتبار ظاهرة الإعجاز في لغة التنزيل مماثلة في تاريخ العرب والإسلام لتلك النظريات التي تجلّت في تصانيف الأغريق وغيرهم من الشعوب. ومثل هذه المقابلة تبدو سليمة لأول وهلة وكأن أصحابها يتساءلون: ولماذا يشذّ العرب عن مثل هذا الاتجاه الذي أوغلت فيه سائر الأمم والشعوب؟..

... لكن الإمعان في النتائج التي آلت إليها هذه النظرة في تاريخنا المعاصر، قياساً إلى ما أصاب سائر الألسن واللغات عند باقي الأمم، يعطينا الحق في الاعتراض على مثل هذه المماثلة حين يكون موضوع اللغة ذا مساس قوي بمسقبل هذه اللغة وبالتالي مستقبل ثقافتها وآدابها. إن الواجب القومي يحتم على كل أمة أن تفتخر بلغتها وتتمادى في الدفاع عنها والذود عن حياضها في المواقف الخطابية وفوق منابر الوطنية وفي مجالس التوجيه التربوي لأن مثل هذا الاعتزاز يحيط اللغة بسمات العظمة والسمو ومن شأنه أن يصون شخصية الأمة ويدعم كيانها في محافل التنافس الدولية. لكن التمادي في هذا اللون من التقديس وخاصة في مجالات العلم والفكر التي يجب أن تخضع للحقيقة والموضوعية، يغدو نوعاً سقيماً من التبجّح الفارغ، والغطرسة العقيمة. كيف لا؟ ومثل هذا الأسلوب يفضي بنا إلى حال من الجهالة والغباوة لا نرضاه لأنفسنا وتاريخنا لأنه يمنعنا بما يبث فينا الكبر والاعجاب بالذات - من رؤية الخلل في بنية لغتنا أو طرائق درسها، ويحول بيننا وبين أهل المعرفة وينابيع الفكر التي تزيد من قوتنا المعنوية، قوة العطاءات الذهنية، التي لا غنى عنها اليوم للشعوب التي تناضل في سبيل البقاء.

حقاً ان العرب في ذودهم عن مكانة لغتهم، إنما يمتحون - كسائر الأمم - من البئر نفسها، إلا ان تلك الأمم لم تبالغ في هذا المنحى مبالغة العرب، فانعكس القول بالإعجاز في لغة التنزيل، أثراً سيئاً على فعالية اللغة وتناميها فكرياً وحضارياً. لا أحد ينكر اعجاز العربية في دائرة الوحي والتنزيل، فهي في هذه الدائرة تستمد قوتها من ينابيع عليا وتكتسي جلالاً وشرفاً لا يضاهى لأنها تحتضن كلاماً لا لكلام، وبالغة تحدّت كل بيان. لكن هذه اللغة خارج هذه الدائرة من الإعجاز تظل لساناً كغيره من الألسن، وحظها من البيان يقوى أو يضعف وتزداد قدراتها في الأداء والتعبير أو تنقص تبعاً لطاقتنا البشرية الآدمية ومواهبنا الزمنية المحدودة.

1- أثر التفاعل الحضاري:

ان القائلين بوجود فاصل بين اللغة في حدود «التنزيل»، واللغة في معترك الحياة والوجود، لا ينكرون مكانة اللغة العربية، ويدعون في نفس الوقت إلى تطويرها وتحديثها. وهذا الموقف هو موقف المحدثين الثائرين على التبعية لأعصر ما قبل النهضة الحديثة والذين يرفضون في جملة ما يرفضون لغة الشعر القديمة ولا يرونها ملائمة في اطارها القديم لعصرنا الحديث نظراً للمؤثرات المتبادلة بين الحضارة واللغة التي هي من أبرز حوافز التفاعل الثقافي، وعوامل التأثير في قدرة الشعوب على التحضّر، أو الدخول في معترك الحضارة.

حول أهمية تكيّف اللغة بالتفاعل والاتصال الحضاري، الذي بدونه تتعرّض للتأخر والانكماش، يذهب الدكتور صبحي الصالح، إلى أن العربية ليست بدعاً من اللغات الانسانية فهي جميعاً تتبادل التأثّر والتأثير، وهي جميعاً تقرض غيرها وتقترض منه، فهي تجاوزت أو اتصل بعضها ببعض على أي وجه، وبأي سبب، ولأي غاية، ومن يرى العربية مقصورة على الإعراب، محبوسة عن التعريب، ويزعم انها بصيغها وأنواع اشتقاقها وحدها أعربت عن خصائصها الذاتية، وأنها إن أدخلت على نفسها التعريب ومصطلحات الحضارة شوّهت محاسنها، وفقدت خصائصها وأنكرت نفسها بنفسها، فليس يريد لهذه العربية إلا الموت، وليس يعيش بعربيّته إلا في بروج من العاج بناها له خيال سقيم.

2- ضرورة تقبّل الدخيل:

ويتناول الدكتور إبراهيم السامرائي الموضوع نفسه، وموقف اللغة من الأفكار الغربية وأساليبها، وفي هذا الإطار لا يرى ضيراً على العربية من دخول طائفة من هذه الأساليب التي من شأنها أن تثري اللغة وتزيد في نموّها، لا سيما أن لغتنا قد قبلت غير قليل من الدخيل والغريب على مرّ العصور، ومثل هذا الاتساع للجديد المنقول من الثقافات المختلفة، هو من صفات اللغات الحيّة القادرة على البقاء والاستمرار. وإذا علمنا أن اللغة ظاهرة اجتماعية، فقد قلنا أنها متطوّرة متجدّدة، يؤثر فيها الزمان والمكان.

هذا الموقف المسؤول يرمي الى تعزيز العربية وحفظها باعتماد كافة الوسائل المؤدية إلى تطويرها، كتعريب الألفاظ الأجنبية والمصطلحات في مواجهة الموقف النقيض والمتزمّت الذي يريد إبقاء اللغة في حدودها الأولى الموروثة، التي تحول دون صمودها في ميدان الثقافة العالمية.

3- تبنّي «الترمنولوجيا» العالمية:

وللغاية نفسها يتناول الدكتور ريمون طحان في كتابه اللغة العربية وتحديات العصر، المشكلات التي تواجه اللغة العربية وتعوقها عن الإندماج في خضم الحركة الفكرية، ومن أهم هذه المشكلات الافتقار إلى حلول جذرية وبنّاءة أمام «التقنيات المتطوّرة» و«الإزدواجية» في اللغة بين العامية والفصحى، و«الروتين التقليدي» في الحقل التعليمي. ويذهب الدكتور الطحان إلى أن اللغة العربية تتعزّز إذا هي نفضت عنها غبار التقديم وتبنّت المصطلحات الحديثة، وتبنّت الترمنولوجيا العالمية.