بيروت - لبنان

اخر الأخبار

1 أيار 2020 12:00ص ظلمة الحياة البشرية في المجتمع الأعمى رواية «العمى» للروائي جوزيه ساراماغو

غلاف الرواية غلاف الرواية
حجم الخط
يُفاجئ القارئ في رواية «العمى» للروائي «جوزيه ساراماغو» وترجمة «محمد حبيب» برمزية المرض الذي يصيب المجتمع ويتسبب بكوارث على أكثر من صعيد منها الصحي والاجتماعي والسياسي والنفسي وغيرها، برؤية عميقة في نهاية تجعلنا نرى الحقيقة النفسية للإنسان أثناء تعرّضه للأمراض مع الخوض في القرارات السياسية، المخطئة بحق الإنسان الذي يتعرّض لأقصى انتهاكات حقوقه، فيصاب باليأس وعدم القدرة على اكتشاف الأسباب التي تؤدّي الى هذه الأمراض التي تجتاح المجتمعات فجأة، لتجعلها تتآكل وتنكمش أمام الصعوبات في تحقيق الشفاء، فالهلع والخوف هما من الإنتكاسات السلبية. وعندما يبدأ شخص ما بتنازلات صغيرة، فإن الحياة تفقد كل معناها في النهاية، فالتفصيل في السرد أعطى المشهد قوة تأثيرية للفوضى التي تسببت بقتل بعض المصابين بالعمى الذي اجتاح مدينة بأكملها بعد أن تم حجر أول المصابين به في أماكن مهجورة غير مهيأة للإنسان، ولقضاء حاجاته وهي أبسط حقوقه. ربما في هذا رمزية للإشارة الى السجون السياسية والتعذيب غير المبرر، والعمى الذي يصيب بعض الذين يرمون بأنفسهم لإنقاذ مجتمعاتهم، وربما لاكتشاف الفوضى العارمة التي تلغي حتى الأسماء التي افتقدتها الرواية، كالرجل الأعمى الأول وصاحبة النظارة السوداء والرجل الطبيب «فالعمى هو أن تعيش في عالم انعدم فيه كل أمل» فهل من تشاؤمات في الحياة تصيبنا وباب الشفاء ان أغلقناه يضعنا في قوقعة المخاوف التي تؤدّي الى الموت حتما؟ وهل العمى خرافة «جوزيه ساراماغو» للإشارة الى أنظمة فاسدة لا تحقق لشعوبها أدنى درجات الأمن الصحي والاجتماعي؟

حقيقة لا أعلم لماذا بحثت عن رواية «العمى» لأقرأها في زمن التدهور الصحي العالمي الذي نشهده اليوم، إلا أن رواية «العمى» هي خرافة الإنسان الذي يحيا في مجتمعات تسرق منه حياته قبل أن يكتشف أنه كان أعمى البصيرة، ولا يرى أدنى مقومات الحياة التي افتقدها في مجتمعه أو في حياته القصيرة، فزوجة الطبيب احتفظت بذاكرة بصرية حافلة بالأحداث التي لم يرها زوجها، وحتى لم يشهد على اغتصابها، بل فوجئت بالخيانة الزوجية وهي التي رافقته لتحافظ عليه، وهي الوحيدة في المدينة التي لم يصبها العمى بآفة رمزية غير عقلانية لا يمكن حتى تخيّلها أو الدخول في تفاصيل العمى، والعيش فيه ضمن العنف والقتل البارد، وقانون الغاب الذي ساد في ظل العلاقات الاجتماعية والصحية المتدهورة، وهو الطبيب العاجز عن إيجاد عناصر المرض للسعي نحو الحلول واكتشاف أسبابه للشفاء منه، إلا اننا نكتشف اننا نحيا في المجهول مع الراوي المبصر أو زوجة الطبيب التي تتمنى لو أصابها العمى، لان الذاكرة البصرية هي قوة الحقيقة التي يراها الإنسان متأخّراً بعد الكثير من الصدمات التي يعيشها، وتؤدّي الى العبثية وخلق الكثير من المخاوف المؤثرة في القارئ. فهل ظلمة الحياة البشرية في المجتمع الأعمى لا يمكن أن تنكشف إلا عند الكوارث الحقيقية أو أثناء معركة الحفاظ على البقاء؟

تعكس رواية «العمى» الخوف من المستقبل الذي لا نستطيع رؤيته بوضوح لأننا نسير وفق سرعة الحياة وتطلباتها، ولا نضع القوانين للحفاظ على الأمن الصحي والاجتماعي أولا، وبالتالي نفتقد للقدرة في مواجهة الوباء الذي يصيبنا فجأة خاصة «عندما نكون في محنة كبيرة وقد أصبنا بوباء الألم والكرب عندئذ يصبح الجانب الحيواني في طبيعتنا أكثر وضوحاً» فالمحنة الحقيقية هي الفوضى العارمة في المجتمعات غير القادرة على مقاومة أي صدمة تصيبها، كما أن البقاء يحتاج للتضامن الإنساني والذي ترأسته زوجة الطبيب الذي أصيب بالعمى بداية وقال «هذا هو الإنطباع الذي خرجت به من خلال مراقبتي لسلوك الناس، فلا يوجد ماء، لا كهرباء، لا طعام من أي نوع، لا بد أن هذا هو العماء، هذا هو المعنى الحقيقي لكلمة العمى». التي عالجها الروائي برؤية رمزية وتحليل لأنظمة قائمة على القوة الهشّة لمجتمعات تؤمن بالتحرر والخروج من دائرة الأمن والامان الى السيطرة وفرض الذات، وضمن شروط شريعة الغاب في عصر ضم الطبيب والصيدلي والكثير من الشخصيات التي تنتمي الى كافة فئات المجتمع.

رواية «العمى» فرضت عليّ الخروج من السرد الروائي والحبكة المثيرة للدهشة التي تصاحبها الأفكار المرعبة أو تلك التي تضعنا أمام زوال الإنسانية والعودة الى قانون الإنسان في الكهوف والحفاظ على البقاء قبل الانتقال مع زوجة الطبيب الى الحقائق في التفاصيل المثيرة في زمن خرافي لا مكان محدد له، ولكن تضعك أمام ما نراه اليوم وبشكل تلقائي «هرج كبير، خاف الناس من أن يهموا وهم مفلسون، فتسابقوا الى البنوك لسحب مدخراتهم بدافع شعور أنه يجب عليهم تأمين مستقبلهم وهذا يمكن فهمه. فعندما يعرف المرء أنه لم يعد قادراً على العمل، فالعلاج الوحيد، مع احتمال أن تطول فترة العطالة، هو في الالتجاء إلى مدخراتهم قليلا فقليلا» فهل نعيش العمى في زمن الوباء العالمي الذي اجتاح العالم؟