لا أحد يستطيع أن يعبر إلى بر الأمان بدون تكلفة وأحزان... فالخبرةُ وتراكمُ الأحداث ضرورة حقيقية لصقل شخصية الإنسان... فما من أحد وُلدَ حكيماً بالفطرة وناضجاً في مجال المعرفة وفن التواصل والكلام وإدارة الأزمات وقراءة الأحداث والمستجدات إلا ويكون قد راكمَ فوق عمره عمراً؛ حتى وصل إلى هذا المستوى من فن الإتقان... فالطفل المولود حديثاً لا يستطيع المشي فوراً؛ ولا يستطيع الكلام؛ بل تلزمه مراحل متعددة وكثيرة لكي يستطيع اكتساب المهارات الضرورية تدريجياً... فالطفل يحبو أولاً؛ ثم يحاول النهوض والوقوف ترنُّحاً؛ وبعدها يحاول التوازن؛ والمشي بعد ذلك... وكل مرحلة تحتاج إلى تشجيع مطلق من الذين هم حوله؛ ومساندة الأشخاص المهتمين والمعنيين به مباشرة، والذين يهمهم أن يعبر إلى المراحل الأخرى وينطلق عبرها إلى ملاعب الكون الفسيح وعلى ضفاف هذه الحياة العتيدة... إذاً هنالك مراحل يجب اجتيازها وأوقات يجب أن تمر ومسافات ومساحات يجب عبورها ومجهود يجب بذله وتعاطف يجب أن يترافق مع كل حركة ومساندة ومعاضدة؛ حتى تظهر النتائج الملموسة؛ ويحصد الإنسان ثمرة مجهوده؛ ويصبح الطفل قادراً على المشي... وهكذا هي الحياة؛ لا أحد يستطيع أن يلج باب الحكمة فيها إلا بعد تجارب عديدة وإخفاقات كثيرة ومحاولات قد تنجح وقد تفشل وكل ذلك مترافق مع آلام قاسية...
لا أحد يجيد التصرف إلا بعد صراع مرير مع الذات ومع الزمن والأحداث والناس؛ وبعد المطبات والإخفاقات التي تعترضه وبعد مراحل الألم والتعوُّد والصبر والتعلم والحب الكبير للحياة.
فعندما يختار المرء طفلاً أبيضاً ونقياً؛ لم يدخل عالم الكبار بعد؛ ولم يتأرجح على أراجيح العمر بعد؛ ولم يعرف المد والجزر في التعامل الإنساني بعد؛ فكيف له أن يكون قد اكتسب الخبرات؛ ومعرفة البدايات؛ وكيف يمكنه أن يحصل على ما يريد؟
إن الحياة هي التي تعلّمنا كيف نتصرف؛ ومن أين تؤكل الكتف كما يقال؛ وتزرع فينا الحنكة وفن التعامل مع الآخرين... فكيف لطفل في الروح عاش بعيداً؛ محجوباً عن عالم الكبار؛ أن يُرمى به وسط ضجيج الحياة؟ وكيف يُنتظر منه أن يتصرف بحكمة وروية وتدبير الكبار؟؟
من أين له الخبرة والمعرفة لكي يُحسن التصرف وأيَّ درب يسلك؟ وأيَّ موقف يختار؟
إن البراءة لها جماليتها ولها وهجها وبريقها اللمّاع والنظيف الذي يلامس حد الطهر وحياة الأبرار والأخيار.
فلا أحد يختار البراءة ويطلب الحنكة معها... فلكل منهما درب منفصل عن الآخر ومدار بعيد وأفلاك مختلفة ومتباعدة الأقدار... فالذي يربي طفلاً ويكون الأول في حياته وباكورة أحلامه ونظراته وتحركاته وأدائه؛ عليه أن يعلم جيداً أنه يتعامل مع نقاء مطلق وصفاء كامل؛ وأنه هو مدرسته ومعلمه ومثله الأعلى؛ وعلى يديه سيتدرب وينطلق في ميادين الحياة.
وعليه أن يعرف أيضاً أنه دائماً هنالك: أول مرة؛ ودائماً هنالك تجارب حياتية ومواقف إنسانية تصقل المرء ليصبح جاهزاً لأن يقرر ويختار...
الأمر الشائع الذي يمارسه معظم البشر؛ أنهم عندما يربون العصافير وينتظرون حتى يكتمل ريشها وتصبح قادرة على الحركة والطيران؛ يفتحون لها الأقفاص لتطير إلى عوالم أخرى وحياة أفضل؛ مسلّحةً بالحكمة والريش والخبرة التي اكتسبتها في البدايات والعلاقات الأولى في الحياة... فطفل البارحة ليس إلا رجل اليوم... فالخبرة والحكمة تكون دائماً نتيجة تجارب كبيرة ومريرة صنعت من طفل الأمس رجل اليوم.
يتعلم الإنسان الدرس وبعده ينتقل الى المراحل التالية من عمر الحب؛ والقلة القليلة من المحبين هم من يستفيدون من جنى ثمارهم وتعبهم ويستثمرون في المحبوب ما زرعوه بداخله من حب وسلام... فالأكثرية تتزعزع علاقتهم؛ وتنهدم محبتهم ويرحل الطرفان في رحلة الحياة الى أماكن جديدة وأناس آخرين ينفقون معهم ما تعلموه من مدرسة الحب؛ ويضعون خبراتهم وثقافتهم ومكرهم ورياءهم وحبهم وآلامهم وكل ما حصدوه واكتنزوه من العلاقات السابقة في حياة جديدة وأمل جديد.
دائماً هنالك: المرة الأولى؛ والقليلون هم من يعرفون كيف يمكنهم المحافظة على الحب وكيف يستفيدون من أوجاعه فيحضنونه ويحصنونه ويمنعون عنه التشرد والجفاء.
فلا حكيم بدون خبرة ولا خبرة بدون تجربة... عندما تجد إنساناً يجيد التصرف بكل شيء فاعلم أنه عاش جميع التجارب واختبر كل المصاعب حتى وصل إليك وهو على هذا المستوى من الحياة.
المحامية مارلين دياب