في إقرار واضح بهزيمته في الانتخابات وعقب استباحته للكونغرس في يوم كارثي في تاريخ الولايات المتحدة سيبقى نقطة سوداء في سجلها الديموقراطي، تعهد دونالد ترامب أمس بـ«انتقال منتظم» للسلطة في 20 كانون الثاني الجاري، غداة العنف الذي رافق اقتحام أنصاره مبنى الكابيتول زارعين الفوضى والذعر ومثيرين صدمة في أميركا والعالم فيما دعت رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تنحية الرئيس المنتهية ولايته معتبرة ترامب «شخصاً خطيراً للغاية ولا ينبغي أن يستمرّ في منصبه».
وجاء ذلك بعد دقائق على مصادقة الكونغرس على انتخاب جو بايدن رئيسا، في آخر مرحلة قبل تنصيبه رسميا، في عملية كان يفترض أن تكون شكلية، لكن الصور التي لم يكن بإمكان أحد أن يتخيلها والتي التقطت من داخل مبنى الكابيتول العريق الذي يضم الكونغرس الأميركي في واشنطن، ستدخلها التاريخ وفي ختام يوم قد يكون كارثيا لمستقبل ترامب السياسي.
وكتب في بيان «حتى لو كنت أعارض تماما نتيجة الانتخابات، والوقائع تدعمني، سيكون هناك انتقال منتظم في 20 كانون الثاني».
وأضاف «إنها نهاية واحدة من أفضل أولى الولايات في تاريخ الرئاسة، لكنها مجرد بداية معركتنا من أجل أن نعيد لأميركا عظمتها».
في غضون ذلك أكد مسؤول في البنتاغون أن تعبئة الحرس الوطني ستستمر حتى تنصيب الرئيس جو بايدن في 20 الجاري.
كما أوضح المسؤول شريطة عدم البوح باسمه، بحسب ما نقلت وكالة أسوشييتدبرس، أن وزارة الدفاع طلبت رسميًا في وقت إرسال حوالي 6200 من أفراد الحرس الوطني من ست ولايات شمال شرق البلاد للمساعدة في دعم شرطة الكابيتول وغيرها من أجهزة إنفاذ القانون في واشنطن في أعقاب أعمال الشغب الدامية التي وقعت أمس في مبنى الكابيتول.
كما أشار إلى أن القائم بأعمال وزير الدفاع كريستوفر ميللر، وقع أوامر بتفعيل الحرس الوطني من فرجينيا وبنسلفانيا ونيويورك ونيوجيرسي وديلاوير وماريلاند لمدة تصل إلى 30 يومًا.
وأعلن نائب الرئيس الجمهوري مايك بنس في منتصف الليل بالتوقيت الأميركي وبعد رد اعتراضات عدد من النواب الجمهوريين، المصادقة على فوز بايدن، مؤكدا أن نتيجة تصويت الهيئة الناخبة صبّت لصالح هذا الأخير، بأصوات 306 من كبار الناخبين مقابل 232 لدونالد ترامب.
وكان النواب وأعضاء مجلس الشيوخ قطعوا جلستهم المشتركة لساعات عدة الأربعاء بسبب اقتحام أبرز رموز الديموقراطية الأميركية. واستأنفوها بعد إخلائه من المتظاهرين.
ورفضوا اعتراضات قدمها الجمهوريون على فوز بايدن، فيما تراجع عدد من الموالين لترامب عن مواقفهم في أعقاب أحداث العنف.
وكان لمشاهد الأحداث داخل مبنى الكابيتول العريق في واشنطن وقع الصدمة. فقد اجتاز حشد من المتظاهرين الذين كانوا يلوحون برايات بعضها كتب عليه «ترامب رئيسي»، الحواجز الأمنية أمام مقر الكونغرس واقتحموا المبنى وخربوا مكاتب ودخلوا إلى قاعات والتقطوا صورا لهم فيها، مرددين أن الانتخابات الرئاسية مزورة.
وأطلقت قوات الأمن الغاز المسيل للدموع خلال عملية استمرت أربع ساعات لإخراج المتظاهرين من الكابيتول.
وقالت الشرطة إن امرأة، يعتقد أنها من أنصار ترامب جاءت من جنوب كاليفورنيا، قضت إثر إصابتها بالرصاص وإن ثلاثة أشخاص آخرين لقوا حتفهم في المنطقة في ظروف لم تتضح بعد. وانتشرت صورة لأحد أنصار ترامب يرتدي سروال جينز وقبعة بيسبول وهو جالس ورجله مرفوعة على مكتب رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي حيث تُركت رسالة تنطوي على تهديد، في وقت تسلق متظاهرون آخرون منصات أقيمت لحفل تنصيب بايدن ورفعوا لافتة كتب عليها «نحن الشعب سنخضع دي.سي (واشنطن). لدينا القدرة على ذلك».
ووصف بايدن أحداث العنف بأنها «تمرد» مؤكدا أن ما حصل في الكابيتول «أحد أكثر الأيام قتامة» في تاريخ الولايات المتحدة
وقال بايدن من ولاية ديلاوير، مسقط رأسه، «نظامنا الديموقراطي يتعرض لهجوم غير مسبوق». وأضاف «هذا ليس اعتراضا. إنه إخلال بالأمن وفوضى. ويكاد يصل إلى الفتنة. ينبغي أن يتوقف الآن».
وبعد وقت قصير على تصريحات بايدن، نشر ترامب تسجيلا مصورا دعا فيه أنصاره للمغادرة لكنه كرر اتهاماته التي لا تستند إلى أدلة عن تزوير الانتخابات.
وقال «يجب أن يحل السلام. لذا اذهبوا إلى بيوتكم. نحن نحبكم، أنتم مميزون جدا».
وقالت صونيا فيتزجيرالد البالغة 34 عاما المناصرة لترامب من ولاية فلوريدا على درج الكابيتول «ستسمعون عن الأمر في كتب التاريخ».
وفي إجراء غير مسبوق، حجبت منصات تواصل اجتماعي تسجيل ترامب معتبرة أنه يفاقم العنف. وعلق موقع «تويتر» حسابه، محذرا الرئيس من حظر دائم في حال عدم التزمه بقواعد النزاهة المدنية.
وتزامنت الفوضى في الكابيتول مع فوز الديموقراطيين بمقعدين في مجلس الشيوخ في انتخابات فرعية بولاية جورجيا، ما يكرس هيمنتهم على الكونغرس ويمهد الطريق أمام بايدن لتمرير تشريعات بدءا بمساعدات إغاثة في أزمة كوفيد-19.
ويقول المؤرخون إنها المرة الأولى التي يتم فيها اقتحام الكونغرس منذ عام 1814 عندما أحرقه البريطانيون خلال حرب 1812. ولأكثر من عقدين، جرت الجلسات المشتركة للكونغرس بهدوء، وهي إجراء شكلي تتم فيه المصادقة رسميا على الفائز في الانتخابات، لكن ترامب حض أعضاء الحزب الجمهوري على الاعتراض على النتيجة.
ورفض الكونغرس الاعتراض الأول على فوز بايدن في أريزونا. كما رفض اعتراضا من الحزب الجمهوري على فوز بايدن في ولاية بنسلفانيا.
واعترض 121 نائبا من الحزب الجمهوري على النتيجة، بينما تراجع عدد من أعضاء مجلس الشيوخ عن معارضتهم السابقة بسبب أحداث الكابيتول.
وقالت السناتور كيلي لوفلر التي خسرت الانتخابات الفرعية في جورجيا «الأحداث التي حصلت اليوم أجبرتني على إعادة النظر. ولا أستطيع الآن بضمير حي أن أعترض على المصادقة».
وتراجع أعضاء جمهوريون في مجلس الشيوخ عن الاعتراض على فوز بايدن في جورجيا وميشيغن.
وسعى زعيم الغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ الأميركي ميتش ماكونيل الذي لطالما كانت مواقفه متناسقة مع ترامب خلال رئاسته، إلى منع الاعتراضات، مشيرا إلى أن نتائج الانتخابات ليست حتى متقاربة.
لكن السناتور جوش هولي الذي قاد جهود الاعتراض على المصادقة وينظر إليه كمرشح جمهوري مستقبلي طامح للرئاسة، تمسك بموقفه حتى بعد اقتحام الكابيتول.
وقال السناتور البالغ 41 عاما «التغيير لا يتحقق بالعنف»، مشددا على أنه يريد أن يعرض «عملية قانونية» تتيح لمؤيدي ترامب النظر في ادعاءاتهم بحصول تزوير في الانتخابات.
أما السناتور ميت رومني، أحد أكبر منتقدي ترامب في الحزب الجهوري، فقال إن أفضل طريقة لاحترام الناخبين هي «بقول الحقيقة لهم». وقال «اولئك الذين يستمرون في دعم هذه المناورة الخطيرة ... سيُعتبرون إلى الأبد متواطئين في هجوم غير مسبوق على نظامنا الديموقراطي».
ودعا زعيم الديموقراطيين في مجلس الشيوخ الأميركي السناتور تشاك شومر أمس نائب بنس إلى تنحية ترامب في الحال.
وقال في بيان إنّه «لا ينبغي للرئيس أن يبقى في منصبه ولو ليوم واحد بعد الآن»، مهدّداً بمحاكمة ترامب في الكونغرس بهدف عزله إذا لم تبادر حكومته إلى تنحيته بموجب التعديل الخامس والعشرين للدستور والذي يجيز لنائب الرئيس وغالبية أعضاء الحكومة أن يقيلوا الرئيس إذا ما وجدوا أنّه «غير قادر على تحمّل أعباء منصبه».
وأضاف أنّ «ما حصل في الكابيتول الأربعاء كان تمرّداً ضدّ الولايات المتّحدة بتحريض من الرئيس».
وحذّر شومر من أنّه «إذا رفض نائب الرئيس والحكومة» إقالة ترامب «فينبغي على الكونغرس أن يجتمع لإطلاق آلية عزل الرئيس».
وكانت وسائل إعلام أميركية أفادت مساء الأربعاء أنّ عدداً من الوزراء في إدارة ترامب ناقشوا إمكانية تنحيته بعد الهجوم.
ويتطلّب تفعيل المادة الدستورية أن تجتمع الحكومة برئاسة مايك بنس للتصويت على قرار تنحية ترامب.
وانقلب العديد من حلفاء ترامب عليه بعدما اقتحم أنصاره مبنى الكونغرس في واشنطن إيماناً منهم بما يكرّره دوماً من أنّ الانتخابات الرئاسية «سُرقت» منه.
وأرسل جميع النواب الديموقراطيين الأعضاء في لجنة العدل النيابية رسالة إلى بنس يطالبونه فيها بتفعيل التعديل الخامس والعشرين «دفاعاً عن الديموقراطية».
واعتبر النواب في رسالتهم أنّ الرئيس المنتهية ولايته «مريض عقلياً وغير قادر على التعامل مع نتائج انتخابات 2020 وتقبّلها».
إلى ذلك شنّ الرئيس الأسبق الجمهوري جورج دبليو بوش هجوماً عنيفاً على القادة الجمهوريين الذين أجّجوا حالة «التمرّد» التي شهدها مبنى الكابيتول والتي تليق بـ«جمهوريات الموز وليس بجمهوريتنا الديموقراطية».
وفي العالم، عبر حلفاء الولايات المتحدة عن صدمتهم.
وندد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بما وصفه «مشاهد مخزية»، فيما وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأحداث «بالعمل المشين».
وأعربت المستشارة الألمانية عن «حزنها» و«غضبها» مؤكدة أن ترامب يتحمل قسما من المسؤولية. وفي باريس، اعتبر الرئيس إيمانويل ماكرون أن ما حصل في واشنطن «ليس أميركيا بالتأكيد».
ورأت روسيا أن اقتحام الكونغرس الأميركي يشكل دليلا على دخول الولايات المتحدة مرحلة تراجع، وقال مسؤولون فيها إن النظام الانتخابي الأميركي والانقسامات العميقة في البلاد تجعل الديموقراطية فيها «عرجاء بالكامل».
أما خصوم واشنطن، فاستغلوا الظرف لانتقادها مجددا.
وقال الرئيس الإيراني حسن روحاني أمس إن الديموقراطية الغربية «هشة وضعيفة»، محذرا من صعود «الشعبوية».
(أ ف ب)