بيروت - لبنان

اخر الأخبار

بوابة العالم

29 تموز 2020 07:47ص حروب «الأقنعة»

حجم الخط

على مدار الشهر المنصرم، كانت الولايات المتحدة تكسر بانتظام رقمها القياسي اليومي لحالات الإصابة الجديدة المؤكدة بمرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، مسجلة أكثر من أربع ملايين حالة في الإجمال وتقترب من 150 ألف وفاة. ورغم أن دولا متقدمة أخرى في أوروبا وآسيا نجحت كما يبدو في احتواء الانتشار، فقد سلكت الولايات المتحدة الاتجاه المعاكس، مع انتشار الجائحة بلا رحمة أو شفقة إلى الولايات الجنوبية والغربية: عدد الحالات في ولاية أريزونا يعادل مجموع الحالات في كامل الاتحاد الأوروبي، الذي يعادل عدد سكانه ستين ضعف مثيله في ولاية أريزونا.

تُـرى ما الخطأ الذي أدى إلى هذه النتيجة المؤسفة؟ يرجع جزء من الإجابة إلى حقيقة مفادها أن بعض الولايات أعادت الفتح قبل الأوان. فقد سجلت كاليفورنيا، التي كانت قصة نجاح مبكرة، زيادة في عدد الحالات بلغت 90% في الأسابيع الأخيرة، واضطرت إلى إعادة فرض بعض إجراءات الإغلاق. وفي فلوريدا، ارتفع عدد الحالات الجديدة اليومي ، الذي كان نحو 5000 في الأسبوع الأخير من يونيو/حزيران، إلى أكثر من الضعف بعد شهر.

ولكن لعل الجاني الأكبر يتمثل في الانقسام العميق حول مسألة أقنعة الوجه، والتي تحولت في الولايات المتحدة إلى جبهة أخرى في الحرب الثقافية الجارية. وجد استطلاع حديث أجراه مركز بيو للأبحاث أن 49% فقط من الجمهوريين المحافظين قالو إنهم كانوا يرتدون قناع الوجه معظم الوقت في الشهر الفائت؛ وبين الديمقراطيين الليبراليين، كانت النسبة 83%. كما وقعت مواجهات غاضبة بين أنصار الأقنعة ومناهضيها في مختلف أنحاء البلاد، وغالبا خارج المتاجر الصغيرة.

بدأ الاستقطاب في أميركا حول أقنعة الوجه عند القمة. فمنذ اندلعت أزمة كوفيد-19، رفض الرئيس دونالد ترمب بثبات ارتداع قناع الوجه علنا، حتى أنه سخر من مراسل رفض خلع قناعه، معتبرا هذا السلوك "قوامة سياسية". وقد سار على خطى ترمب العديد من المسؤولين المنتخبين الجمهوريين، بما في ذلك حكام ولايات مثل رون ديسانتيس في فلوريدا. خلال مسيرة تولسا السيئة السمعة في يونيو/حزيران، كانت الأقنعة قليلة ومتباعدة (و ارتفعت حالات العدوى هناك لاحقا ). في أواخر يوليو فقط ــ مع انخفاض شعبيته بدرجة كبيرة، ومع تفشي المرض بشكل جامح في ولايات يجب أن يفوز فيها لإعادة انتخابه، واستحثاثه من قِـبَـل مساعديه "للتركيز على التعامل مع الفيروس بجدية في تعليقاته العامة" ــ أيد ترمب ارتداء الأقنعة (دون أن يرتدي هو واحدا).

على النقيض من هذا، يظهر بايدن، المرشح الديمقراطي المفترض الذي سيواجه ترمب في نوفمبر/تشرين الثاني، بانتظام في الأماكن العامة مرتديا القناع وملتزما بإرشادات التباعد الاجتماعي. علاوة على ذلك، قال بايدن إنه لو كان في محل ترمب، فإنه كان "ليفعل كل شيء ممكن لجعل ارتداء الناس لأقنعة الوجه في الأماكن العامة إلزاميا".

كما أرسلت سلطات الصحة العامة إشارات متضاربة. ففي البداية، لم تنصح المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض والوقاية منها ولا منظمة الصحة العالمية عامة الناس بارتداء أقنعة الوجه، خوفا من شُـح الإمدادات للمهنيين العاملين في مجال الصحة. ولكن على عكس ترمب، غيرت كل من الهيئتين نصيحتها على أساس الأدلة الوبائية.

على المستوى الشعبي، إلى جانب التحررية الحماسية التي تدعم رأي العديد من الناخبين الجمهوريين بأن الأقنعة "كمامات" تقيد الحرية الشخصية والاختيار، كان هناك تيار ديني قوي مقاوم لأقنعة الوجه في الولايات المتحدة. حتى أن أحد سكان فلوريدا احتج بأن ارتداء القناع يشكل إهدارا "لنظام التنفس الرائع الذي وهبنا الرب إياه". ولكن من منظور المسيحيين الأصوليين، هناك منطق أشد عمقا لمعارضة الأقنعة: فالمسيحيون يرتدون الصلبان؛ والمسلمون هم من يغطون وجوههم.

الواقع أن الارتباط بين الإسلاموفوبيا (كراهية الإسلام) ومعاداة تغطية الوجه قديم. فقبل عامين، ذهب رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى تشبيه النساء المسلمات المنتقبات بـ"صناديق البريد"، وفي عام 2011، فرض الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي " حظر البرقع " المثير للجدال، والذي يحظر على النساء المسلمات ارتداء نقاب الوجه الكامل في الأماكن العامة. وفي فرنسا، رأى كثيرون في أوامر الحكومة بارتداء الأقنعة في الاستجابة لجائحة كوفيد-19 مفارقة مزعجة، إن لم يكن تمييزا صريحا. وكما لاحظ جيمس ماكولي من صحيفة واشنطن بوست: "إذا أرادت امرأة مسلمة ملتزمة ركوب مترو باريس، فإنها مطالبة بإزالة البرقع ووضع القناع محله".

إذا كان المقصود من قانون ساركوزي بعنوان "نحن نعيش الجمهورية بوجه مكشوف"، تمييزيا بشكل واضح، فقد غلف هذا القانون ذاته بمبرر أكثر نبلا، يمتد إلى عصر التنوير، للظهور بغير قناع في المجال العام. برفض سياسات النظام القديم المنمقة، التي كانت أقنعة الأرستقراطيين في حفلات الرقص رمزا لها، زعم فلاسفة مثل جان جاك روسو أن الحكم في أي جمهورية يجب أن يكون شفافا تماما: إذ يتعين على أولئك الذين يشاركون في المجال العام أن يكونوا قادرين على رؤية الناس وأن يراهم الناس. وعندها فقط يصبح من الممكن أن تنشأ سياسات ديمقراطية حقيقية.

كانت فكرة روسو تتلخص في أن المواطنين الديمقراطيين سيتفاعلون مع بعضهم بعضا بشكل علني، وهذا من شأنه أن يجبرهم على تحمل المسؤولية عن آرائهم. لكن تطورين حديثين يشكلان تحديا لهذه المساحة من الديمقراطية.

يتمثل الأول في الابتكارات التكنولوجية مثل تكنولوجيا التعرف على الوجوه، التي تستطيع الدول استخدامها لمراقبة سكانها والتحكم فيهم. ولهذا السبب، لم ينتظر المحتجون المؤيدون للديمقراطية في هونج كونج، على سبيل المثال، تفشي الجائحة لتغطية وجوههم.

ثانيا، يجعل القناع الإلزامي الذي تفرضه العديد من البلدان الغربية في الاستجابة لجائحة كوفيد-19 من الصعب تحقيق ذلك النوع من الشفافية الذي تصوره روسو. وعندما اندلعت احتجاجات "حياة السود مهمة" في يونيو/حزيران، قرر المشاركون، الذين كانوا بصفتهم ديمقراطيين صالحين يُـظـهِـرون "وجوها مكشوفة" غالبا، تغطية وجوههم بصفتهم مواطنين صالحين.

الواقع أن هذا الافتقار إلى الشفافية قد يكون مسليا أو محبطا للمتظاهرين الذين يجدون أنفسهم غير قادرين على التعرف على الأصدقاء والرفاق. ولكن عندما يحدث هذا على الجانب الآخر ــ عندما تزيل قوات الأمن أو تحجب شاراتها الرسمية، مما يمنحها فعليا القدرة على الإفلات من العقاب على العنف الذي تمارسه ضد محتجين سلميين ــ يصبح التهديد المفروض على المساحة العامة الديمقراطية جوهريا. وعلى هذا فقد بلغت هذه المخاوف ذروتها عندما قرر ترمب نشر قوات شبه عسكرية فيدرالية لقمع الاحتجاجات الليلية في بورتلاند، وأوريجون، وعندما أعلن عن استعداده للقيام بذات الشيء في مدن أخرى.

في نهاية المطاف، يجب أن تذكرنا الجائحة والاحتجاجات بحقيقة بسيطة: القناع دائما مجرد قناع. ما يهم الديمقراطية حقا ليس ما إذا كان الناس يغطون وجوههم في الأماكن العامة، بل أيهم يفعل ذلك، ولماذا.


المصدر: PROJECT SYNDICATE 

(ترجمة: إبراهيم محمد علي)