أُطـلِـقَ على اجتماع المجلس الأوروبي هذا الأسبوع عن حق مسمى " قمة يوم الحساب ". فقد طغت عليه ليس فقط موجة الشتاء المروعة من الإصابات بعدوى مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) واحتمال الخروج البريطاني الفوضوي من الاتحاد الأوروبي دون التوصل إلى اتفاق، بل وأيضا المواجهة مع حكومتي المجر وبولندا، اللتين احتجزتا مئات الملايين من الناس رهائن من خلال التهديد باستخدام حق النقض ضد ميزانية الاتحاد الأوروبي للفترة 2021-2027 وصندوق التعافي من الجائحة.
تحاول المجر وبولندا عرقلة إقرار آلية جديدة لدعم "سيادة القانون" والتي من شأنها أن تمنع اختلاس أموال الاتحاد الأوروبي لأغراض الفساد ــ وهي الممارسة التي اشتهر بها نظام رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان اللصوصي. وبصفتها رئيسة الحكومة الأطول خدمة في تاريخ الاتحاد الأوروبي، تدخلت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لمحاولة كسر الجمود، و وجهت الدعوة إلى "جميع الأطراف" إلى الاستعداد "لقبول التسوية إلى حد ما".
ولكن لماذا يتنازل الاتحاد الأوروبي عن قيم أساسية مثل سيادة القانون (المنصوص عليها في معاهدة لشبونة)، ولماذا يوافق دافعو الضرائب في الاتحاد الأوروبي على إثراء الحكام المستبدين ورفاقهم بأموالهم التي اكتسبوها بشق الأنفس؟ بدلا من ائتمان ميركل على التوسط للتوصل إلى صفقة، يجب أن يذكرها الأوروبيون بأنه هذه فرصتها الأخيرة لإثبات كونها مهتمة حقا بالديمقراطية وسيادة القانون.
الواقع أن حزب ميركل الديمقراطي المسيحي والحزب البافاري الشقيق، الاتحاد الاجتماعي المسيحي، هما اللذان مكنا أوربان من خلق نظامه المستبد في المقام الأول. وكانت أورسولا فون دير لاين، التي اختارتها ميركل لرئاسة المفوضية الأوروبية، هي التي فشلت في حماية استقلال القضاء البولندي عن حكومة حزب القانون والعدالة الشوفينية الشعبوية التي دأبت على تحدي الجميع على نحو متزايد.
كانت "أزمة سيادة القانون" في أوروبا تبدو دوما أكثر تجريدا وأقل إلحاحا من التحديات الأخرى أثناء فترة حكم ميركل الطويلة، والتي امتدت عبر أزمة اليورو، وأزمة اللاجئين في عام 2015، والآن جائحة كوفيد-19. ومع ذلك فإن القضية الأولى هي التي تشكل التهديد الأكبر لجوهر الاتحاد الأوروبي الأخلاقي ــ وعملياته اليومية.
في حين يُـصَـوَّر الاتحاد الأوروبي غالبا بشكل كاريكاتوري على أنه دولة عظمى بعيدة ومنعزلة، فإنه يعمل عن كثب مع ــ ومن خلال ــ البلدان الأعضاء لتنفيذ سياسة الاتحاد. الأمر الأكثر أهمية هو أن الاتحاد الأوروبي يعمل بشكل أساسي كمجتمع قانوني حيث تقوم المحاكم الوطنية مقام المحاكم الأوروبية. ومن غير الممكن أن ينجح هذا الترتب في غياب الثقة المتبادلة، لأنه يعتمد على اعتراف المحاكم الوطنية بقرارات محاكم البلدان الأعضاء الأخرى. وإذا وقع القضاء أسيرا لحكومة استبدادية تستهدف القضاة الذين لا يمكنها الاعتماد عليهم سياسيا (كما هي الحال في بولندا)، فمن غير الممكن أن نتوقع من المحاكم الأخرى أن تعترف بقراراتها التعسفية.
من المفترض أن تضطلع المفوضية الأوروبية بدور " الوصي على المعاهدات " الذي يكرس القيم الأوروبية الأساسية. لكن جهودها في فرض هذه القيم في مواجهة انتهاكات البلدان الأعضاء كانت عادة أقل مما ينبغي ومتأخرة أكثر مما ينبغي . فحتى بعد سنوات من السلوكيات القائمة على سوء النية من قِـبَـل بولندا والمجر، لا تزال المفوضية تدعو بسذاجة إلى المزيد من "الحوار"، وهو ما يسمح ببساطة للمستبدين الطامحين بتوطيد سلطتهم من خلال الاستيلاء على القضاء وخلق حقائق أخرى على الأرض.
نظرا لتقاعس المفوضية عن التحرك، بادرت البلدان الأعضاء إلى الأخذ بزمام الأمور. على سبيل المثال، أصبحت مذكرات التوقيف الأوروبية حبرا على ورق، لأن الدول بدأت ترفض تسليم أي شخص إلى بولندا ، حيث لم يعد من الممكن ضمان المحاكمات العادلة. في هذا الشهر، دعا البرلمان الهولندي الحكومة الهولندية إلى مقاضاة بولندا في المحاكم بسبب انتهاكاتها لسيادة القانون، وهو ما قد يُـفضي إلى نشوب مواجهة ثنائية ما كانت لتحدث أبدا لو كانت المفوضية تقوم بوظيفتها.
في ذات الوقت، هاجم أوربان ألمانيا، في مقابلة حديثة ، متهما إياها بأنها "لامبالية فكريا"، ولعله يعني بهذا أنها غير قادرة على رؤية الصورة التاريخية الأكبر وأنها عديمة الحساسية تجاه تجارب البلدان الأعضاء الأصغر حجما. الواقع أن أوربان يرى الأشياء بالمقلوب: فإذا كانت ألمانيا غير مبالية فإن ذلك كان في ما يخص الحفاظ على الديمقراطية وسيادة القانون في المجر تحت حكمه.
يتمثل أفضل تفسير لإهمال ألمانيا القيم الأوروبية الأساسية في خدمة أوربان المخلصة لصناعة السيارات الألمانية، وهو الوضع الذي يطلق عليه المنتقدون وصف "حُـكم آودي" ( Audi-ocracy ). من المؤكد أن بعض أعضاء حزب ميركل، الاتحاد الديمقراطي المسيحي، تشدقوا طويلا بـِ"الخطوط الحمراء" التي لا يجب أن يتجاوزها أوربان، حتى أنهم دعوا في بعض الأحيان إلى طرد حزبه، فيدس، من حزب الشعب الأوروبي فوق الوطني، والذي يشكل المظلة التي تجمع الأحزاب المحافظة في البرلمان الأوروبي.
لكن أوربان لم يدفع قَـط أي ثمن سياسي أو مالي حقيقي بسبب سلوكه. وكانت نتيجة هذا الاسترضاء، كما أشار مراقبون فطنون، أنه أصبح الآن يعامل "شركاءه" الأوروبيين بذات الوحشية التي يتعامل بها مع بلده، متهما إياهم بتحويل الاتحاد الأوروبي إلى شيء آشبه بالاتحاد السوفييتي.
نالت أنجيلا ميركل الثناء المستحق لمعارضتها اعتداءات الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترمب على قيم الديمقراطية الليبرالية المشتركة والمؤسسات الدولية، ولعزيمتها الصادقة في التعامل مع الجائحة. كما تصرفت بشجاعة عندما وافقت على شكل من أشكال تبادلية الديون في إطار صندوق التعافي الجديد، مما يضع الاتحاد الأوروبي على أساس مالي أكثر قوة.
ولكن عندما تتنحى ميركل في العام المقبل، فإنها لن تترك وراءها أي إطار عمل متماسك لدعم تطلعات منطقة اليورو أو أوروبا إلى أن تصبح "قوة معيارية" عالمية قادرة على تعزيز الديمقراطية وسيادة القانون. وسوف يظل دفاعها عن هذه القيم ممارسة جوفاء ما دامت تتسامح مع بلدان أعضاء لم تعد تلبي معايير الديمقراطية.
سوف يبدو إرث ميركل مختلفا إذا واجهت من أعلنوا أنفسهم غير ليبراليين في أوروبا. أما إذا لم تفعل، فإنها بهذا تقول إن القيم قابلة للتفاوض، وإن الاتحاد الأوروبي يمكن ابتزازه بسهولة.
إن التصويت على آلية سيادة القانون بمبادرة ألمانية في مجلس الاتحاد الأوروبي من المرجح أن ينتهي إلى الموافقة عليها ، لأن المجر وبولندا لا يمكنهما عرقلة قرار لا يتطلب سوى الأغلبية المؤهلة. بعد ذلك، من غير المحتمل أن يستمر أوربان وحكومة حزب القانون والعدالة في عرقلة مبلغ 1.8 تريليون يورو (2.2 تريليون دولار أميركي) من الأموال المطلوبة بشدة.
في كل الأحوال، سوف يتذكر دافعو الضرائب الأوروبيون أن مثل هذه الحكومات تفضل إلحاق الأذى والألم بالجميع على أن تتلقى أموالا يجب إنفاقها على النحو اللائق. يزعم أوربان أن قبول آلية سيادة القانون سيكون "انتحارا" سياسيا بالنسبة إليه. ربما. لكن هذه بكل تأكيد ليست مشكلة أوروبا.