ان نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية في الثالث من نوفمبر سيكون لها تداعيات كبيرة على أميركا وذلك فيما يتعلق بالسياسة الاقتصادية والعدالة العرقية والقضاء والرعاية الصحية ونوعية ديمقراطيتها بشكل عام ولكن التأثيرات الدولية للانتخابات قد تكون كذلك تأثيرات كبيرة ودائمة. هل يمكن لانتصار المرشح الديمقراطي ونائب الرئيس السابق جو بايدن على وجه الخصوص منع مواجهة خطيرة بين القوى العظمى وان يكون هذا الانتصار بمثابة اعلان عن حقبة جديدة من التعاون الدولي؟
لو أعيد انتخاب ترامب، لن يسعى بالضرورة لمزيد من المواجهات الخارجية خلال فترة رئاسته الثانية بل على العكس من ذلك سيضعف الحافز الانتخابي لترامب من اجل تبني مواقف متشددة مما يعني انه قد يصبح اقل تشددا وخاصة تجاه الصين وان يسعى للتوصل "لصفقات اقتصادية" كلما أمكن ذلك.
في واقع الامر فإن سعي إدارة ترامب لإبهار الناس من خلال الحديث عن القيم وحقوق الانسان قد يتوقف بشكل تام فالرئيس مرتاح جدا مع المستبدين والتوبيخ الأخير للصين من قبل وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بسبب انتهاكات حقوق الانسان كان عبارة عن استعراض انتخابي أكثر منه اعتقاد وايمان أخلاقي.
ان إدارة ترامب للفترة الرئاسية الثانية – مثل الفترة الرئاسية الأولى- لن تحاول عرض المفاهيم المنهجية للديمقراطية وحقوق الانسان حول العالم وعوضا عن ذلك فإن هذه الإدارة سوف تسعى لتبني مقاربة دبلوماسية قائمة على الصفقات بشكل كامل عند تعاملها مع الحلفاء والخصوم على حد سواء حيث طبقا لحسابات تلك الإدارة فإن السوق المحلي الضخم لامريكا وخبرتها العسكرية -الصناعية وقدرة الدولار على تجاوز الحدود الإقليمية سوف تعزز من قوتها التفاوضية الثنائية حتى تجاه الصين والاتحاد الأوروبي ولكن وعلى الرغم من ان عقد الصفقات الثنائية قد يكون فعالا في بعض الحالات ،الا ان تجاهل ترامب للحلفاء وازدراءه للتعددية – مصدر رئيسي لقوة أمريكا لعقود -أضعف من قوة أمريكا ونفوذها.
صحيح انه على الرغم من جهود ترامب الخبيثة فإن الولايات المتحدة الأمريكية تحتفظ بقوة ناعمة كبيرة وذلك لإن الكثير من دول العالم يعتبرون رئاسة ترامب على انها شيء استثنائي وغير عادي لا تعكس الشخصية الحقيقة لأمريكا ولكن لو تم إعادة انتخاب ترامب فإن تلك القوة الناعمة سوف تنخفض بشكل حاد. ان نهج قائم على أساس عقد الصفقات فقط سوف بزيد من تآكل النظام المتعدد الأطراف الضعيف بالفعل ولكن مهما يكن من امر فإن الحاجة الى القواعد والاحكام والمقاييس سوف تزيد.
ان عالم من التعددية المنقوصة بشكل كبير من المرجح ان يتبلور ليصبح على شكل ثلاثة ميادين للنفوذ- بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والصين والاتحاد الأوروبي- وكل واحد من تلك الميادين لديه قواعد واحكام ومقاييس خاصة به. ان من الممكن ان يكون للاتحاد الأوروبي ثقل كاف لتشكيل قطب ثالث خاص به وخاصة لو استطاع جذب دول متوسطة الحجم لدخول ميدان النفوذ الخاص به ولو افتقد الاتحاد الأوروبي للتماسك لعمل ذلك فإن العالم سيصبح ثنائي القطب وذلك نظرا لإن ثقل وقوة الجذب للولايات المتحدة الامريكية والصين هي أكبر بكثير من تلك الموجودة لدى أي منافسين محتملين.
ان مثل هذا العالم سيكون غير فعال وبقواعد ومقاييس مختلفة مما يساهم في تجزئة الأسواق وبالإضافة الى ذلك فإن التوصل الى اتفاقيات لتقاسم الأعباء بهدف توفير منافع عامة على مستوى العالم مثل التخفيف من التغير المناخي سيكون صعبا للغاية كما ان مثل هذا العالم سيكون خطيرا فعلى الرغم من اعتمادهما على بعضهما البعض بشكل كبير فإن من الممكن ان تنزلق الصين والولايات المتحدة الامريكية لحرب تقنية باردة قد تصبح ساخنة وذلك نظرا لسوء التقدير من الطرفين بما في ذلك ما يتعلق بالأسلحة السيبرانية الجديدة.
كيف يمكن للمستقبل ان يكون مختلفا لو فاز بايدن؟
بالنسبة للعلاقة الامريكية-الصينية فإنه لن يتغير الكثير على المدى القريب بل على العكس من ذلك قد تزداد الخلافات الثنائية بينهما وذلك نظرا لإن إدارة بايدن سترفع من شأن قضايا حقوق الانسان بأسلوب أكثر ثباتا وتناغما. ان التوترات الحالية المتعلقة بالتجارة والسياسات الصناعية والتكنولوجيا سوف تستمر كما سيبقى التنافس القوي بين الصين وامريكا من خصائص النظام العالمي.
لكن إدارة بايدن قد تغير بشكل جذري علاقات أمريكا الحالية مع حلفاءها التقليديين -وخاصة أوروبا- بالإضافة الى نهجها المتعلق بالتعددية. ان تبني مثل هذه الاستراتيجية بقوة يمكن ان يمنع التفكك غير الفعال والخطير للنظام العالمي.
ان وجود بايدن في البيت الأبيض يعني ان الولايات المتحدة الامريكية وأوروبا والعديد من الدول من افريقيا وامريكا اللاتينية واسيا يمكنها العمل معا لتأسيس قواعد واحكام ومقاييس مشتركة تعكس قيم متشابهة في الأساس وان كان من الضروري التوصل لحلول وسط صعبة في مجالات مثل إدارة البيانات والضرائب الرقمية. ان مما لا شك فيه ان الولايات المتحدة الامريكية ستعيد التواصل مع منظمة التجارة العالمية وسوف تقود الجهود المبذولة للتوصل الى نظام تجاري عالمي قائم على أساس القواعد والأحكام مع السعي أيضا لتطبيق الإصلاحات المؤسسية التي تشتد الحاجة اليها.
ان أمريكا تحت حكم بايدن سوف تبقى عضوا في منظمة الصحة العالمية وتعمل على الوقاية من الجوائح ضمن اطار متعدد الأطراف وبالمثل سوف تعيد الانضمام الى اتفاقية باريس للمناخ لسنة 2015 وتلتزم بأهداف جادة للحد من تأثيرات التغير المناخي.
ليس من المؤكد ان إدارة بايدن سوف تسعى بقوة لتطبيق مثل تلك الاجندة بشكل يكفي لإعادة الروح الى تعددية متجددة كانت الولايات المتحدة الامريكية تلعب دورا قياديا وحاسما فيها في الماضي ولكنها لم تعد قوة مهيمنة وعلى الرغم من ان المصالح الوطنية المتباينة سوف تستمر والتوصل لحلول وسط سيكون صعبا فإن القيم الأساسية المشتركة والمصالح الذاتية المستنيرة قد تؤدي لحلول متفق عليها.
ان من الأمور المهمة للغاية هو ان الاحياء الناجح للتعددية قد يجعل الصين ترغب في ان تكون جزءا من هذا النظام العالمي المتجدد وعلى الرغم من ان القيادة الصينية قد أعلنت وبشكل علني التزامها بالتعددية الدولية فإنه من الناحية العملية اتبعت الصين استراتيجية القوة الصارمة غير المقيدة مما يعني انه ربما الخيار الأفضل للصين هو ان يفوز ترامب مجددا.
لكن على الرغم من حجمها لا تستطيع الصين تحمل تكلفة ان تبقى لوحدها في تحد لبقية العالم وذلك في حالة قرر الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الامريكية بقيادة بايدن تطبيق احكام وقواعد ومقاييس متفق عليها بالتعاون مع العديد من دول العالم الأخرى كما لن تستطيع الصين في مثل هذا السيناريو اقناع العديد من دول شرق اسيا ان تتحالف معها.
ان أي جهود أمريكية مكثفة لتجديد التعددية قد تؤدي الى وقف الاتجاه الحالي نحو عالم منقسم بشكل صارخ في ظل التنافس بين القوى العظمى وفي وقت يواجه العالم فيه تحديات غير مسبوقة فإن مثل هذه النتيجة سوف تفيد الجميع بما في ذلك الصين وهذا قد يكون بأهمية الفرق على المستوى المحلي بين فوز ترامب وفوز بايدن.
على الرغم من ان الحكمة التقليدية الحالية هي ان وجود عالم منقسم بشكل خطير هو امر حتمي، فإن الالتزام الأمريكي الحاسم بالتعددية لا يزال من الممكن ان يؤدي الى مستقبل أفضل بكثير واكثر آمانا. لو فاز بايدن في 3 نوفمبر فإنه يتوجب على الديمقراطيين ذوي التوجه العالمي من جميع وكالات الحكومة التفكير بشكل طموح وان يمتلكوا الشجاعة لتحقيق ما يؤمنوا به.