يتجه الإقتصاد اللبناني إلى مفترق طرق بسبب إتباع سياسات إصلاحية مسكنة هدفها معالجة قضايا جزئية في ظل بيئة سياسية مضطربة على الساحتين الداخلية والخارجية. اليوم، ينظر قسم كبير من اللبنانيون إلى مصرف لبنان على إنه المنقذ الدائم للإقتصاد في ظل فشل السياسيين. فيرى الكثيرون أن سياسة المصرف المركزي المرتكزة على ثبات سعر الصرف هو جزء لا يتجزأ من سياسة الاستقرار النقدي والمالي وأن أي إخلال بهذا التوازن الدقيق سوف ينعكس سلباً على الإقتصاد. في المقابل، يرى فريق آخر أن السياسة النقدية المتبعة حالياً قلصت حجم الإقتصاد اللبناني و أدت إلى تراكم الدين العام. في هذا الإطار، إن الخلاف في وجهات النظر حول سياسة مصرف لبنان في الفترة الأخيرة، ما هو إلا جزء من السجال السياسي، و محاولة لتسجيل النقاط في مرمى الطرف الآخر.
يعود السبب الرئيسي للإستقرار الّذي عرفته قيمة الليرة اللبنانية خلال السنوات الفائتة لعوامل ومؤثرات مر بها لبنان سنة بعد سنة وعلى رأسها تدفق الأموال من المغتربين وسواهم. من البديهي أنّ مصادر الدخل هذه معرضة لتقلبات كبيرة في قيمتها، خاصة وأنها تعتمد أساساً على السياسة التي تتبعها الدول الأخرى وعلى الإستقرار الإقتصادي في العالم عامة وفي الشرق الأوسط خاصة. فأهم التحديات المالية اليوم تكمن في صعوبة الحفاظ على تدفقات الودائع في ظل إرتفاع كبير في عجز الحساب الجاري وتراكم الدين العام . ففي الماضي، كانت تدفقات الودائع الأجنبية مصدرا أساسيا لتمويل العجز الكبير في الموازنة العامة. غير أن نمو الودائع شهد تراجُعا كبيرا في السنوات الأخيرة وترافق ذلك مع انخفاظ في صادرات السلع بينما ارتفعت الواردات بسبب انخفاض تكلفة القروض التي يتيحها مصرف لبنان من خلال عدة برامج تحفيزية تقوم على دعم الفوائد.
من المفاهيم الأساسية المتفق عليها في علم الإقتصاد أن الطفرة الاقتصادية (economic boom) هي الأنسب للاتجاه التقشفي، وليس الركود. يعني أن الطفرة الاقتصادية هي الوقت الأنسب لتقشف الخزينة العامة. وفي السياق نفسه نشرت جامعة هارفارد دراسة بعنوان "النمو في زمن الديون”، وأظهرت أن الدول التي وقعت في عجز عام في ميزانياتها العامة، عقب الأزمة المالية العامة في ٢٠٠٧، لم تتجه لتبني أي اتجاه تقشفي وقت الركود، بل اتجهت إلى سياسة التيسير الكمي، وبدأت في الاتجاه التقشفي عام ٢٠١٠. فاليوم تعتمد الحكومة اللبنانية على رؤية تنموية استراتيجية، التي وإن كانت جيدة في كتابها، إلا أنها تفتقر إلى وجود هدف واقعي وقابل للتحقيق ومتمتع بالقبول العام. وبالنظر إلى الواقع فإن لبنان في مرحلة يتطلع فيها إلى استعادة السلم الاجتماعي، وسد الاحتياجات الأساسية لعموم المواطنين، وبناء بنية تحتية وبنية ذكية متطورتين لتدشين اقتصاد أكثر تنافسية وعدالة. فبرنامج الحكومة الاقتصادي الهادف إلى تنشيط النمو يتضارب مع السياسات التقشفية المقترحة و التي تهدف إلى تخفيف العبء المالي عن الحكومة عبر نقله إلى المواطنين، إذ أن نقل العبء إلى المواطن، لا يسمح له بالادخار، أو تنشيط الاستهلاك، أو إشباع قدر أكبر من حاجاته الرئيسية.
التوازن المطلوب
في ظل غياب برنامج إصلاح إقتصادي شامل و طويل الأجل، إزداد العجز في الموازنه وتفاقم الوضع الإقتصادي بسبب عوامل عديدة ابرزها تضخم حجم القطاع العام بشكل كبير، إرتفاع كلفة الرواتب و المعاشات التقاعدية بنسبة تفوق ال-٦٠ بالمئة، زيادة عجز الكهرباء المقدر بملياري دولار سنويا، و إرتفاع خدمة الدين العام بنسبة تفوق ال-٢٥ بالمئة خلال الفترة ذاتها بسبب سوء الإدارة السياسية.
قبل الاضطلاع بمشاريع استثمارية كبيرة، ينبغي تعزيز إطار إدارة الاستثمار العام على أن تكون أي زيادة في الاستثمارات مرتكزة على خطة شاملة لضبط الاقتصاد الكلي تُصمَّم على نحو يكفل تثبيت نسب الدين العام ثم وضعه على مسار تنازلي. كذلك من الضروري احتواء المخاطر التي تهدد الاستقرار المالي، بما في ذلك تحفيز البنوك على تعزيز هوامش الأمان بالتدريج واتخاذ مزيد من الإجراءات الرامية إلى تحسين جودة الائتمان. وبالتالي فالحكومة مدعوة في حال إعتمدت الضرائب، إلى فرضها على الموارد غير المُستخدمة، كالحسابات المصرفية الكبيرة، الأملاك البحرية والنهرية، الشقق الشاغرة .
ويمكن الاستفادة من التجارب الدولية للدول التي مرت بمراحل انتقالية اقتصادية وسياسية شبيهة، مثل دول أمريكا اللاتينية التي تُشير تجربتها إلى أن السيطرة على العجز أمر لا يمكن إنجازه بسرعة، أو بتبني سياسات تقشفية صارمة تزيد من الفجوات ما بين الطبقات، وتكرس عدم العدالة في التوزيع، وإنما ارتبطت بالأساس بتحقيق نموٍّ متوازن، وخلق فرص العمل، والاستثمار في رأس المال البشرى (التعليم والصحة)، وإنجاز إصلاح ضريبي يحقق زيادة الموارد، ويضمن توزيع الأعباء الضريبية بشكل أكثر انصافًا من خلال الضرائب التصاعدية.
*خبير إقتصادي وأستاذ محاضر في جامعة هارفرد