كنت مقتنعا، وما زلت، أن إسرائيل لن تخوض حروبا جديدة في
المنطقة. هي لا تحتاج إلى هذه الحروب بعد اليوم. أمكنها
فعلا، تحقيق أهداف كبرى لها، تشمل سقوط الغطاء القومي، عن نضال الشعب الفلسطيني
ضدها واستفراده، وتفتيت دول "الرفض"،
التي أنشأها تقسيم اتفاق سايكس بيكو في منطقة الهلال الخصيب، بعد الحرب العالمية
الأولى، إلى فدراليات تطغى عليها سمة الكونفدراليات الطائفية، وضمان بالتالي
تفوقها العسكري الكامل على جيرانها.
سيثبت التاريخ أن هذه المنطقة كانت مرّة أخرى، بعد نهاية
الحرب العالمية الثالثة (الحرب الباردة)،
موضع اتفاقات جديدة بين الجبابرة. فكما أن مؤتمر
يالطا عام 1945، فشل بأن يقيم عالما يسوده السلام بعد الحرب العالميّة
الثانية، وأراد كل من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، التعاون في حينه، وفقا
لشروطه، فإن مؤتمر قمة مجلس الأمن عام 1992، فشل أيضا، بأن
يقيم عالما يسوده السلام بعد الحرب العالميّة الثالثة، وأصرّ كل من الولايات
المتحدة، والاتحاد الروسي والصين، على التعاون وفقا لشروطه. وهكذا
نرى معالم الحرب الباردة تعود من جديد.
لكن الفارق بين الماضي والحاضر هو أن بعد 1945 ساد
انقسام إيديولوجي بين الجانبين، أما بعد 1992 فإنه
يسود تنافس في المصالح. كل الدول العظمى
اليوم تسير في ركب إيديولوجي واحد: الليبرالية
الإقتصادية. وعليه فإن الأحداث التي تبعت عام 1945،
في الشرق الأوسط، حملت إنقسامات إيديولوجية شملت دور إسرائيل وباقي الدول في
المنطقة. وفي حينه، كان لا بد لإسرائيل، أن تحمل العبء وحدها في
حروبها ضد العرب، وبدعم أميركي غير مشروط، في حين أن العرب كانوا يقاتلون وحدهم،
وبدعم سوفياتي مشروط بمنع إنهاء دولة إسرائيل، ومنع حصولهم على أسلحة متطورة
وأنظمة حرّة.
أما في الوقت الحاضر، فإن الجبابرة لا يتقاتلون لأسباب
إيديولوجية، بل لخدمة مصالحهم الخاصة. لم يعد يمكن أن
تخدم الحروب بالواسطة وحدها، هذه المصالح، بل صار من الضروري التدخل المباشر. وبالطبع
فإن مثل هذا التدخل المباشر، يعني أن الضحيّة لن يكون لها القدرة على المواجهة،
فيتحول مصيرها إلى قدر بين أيدي الجبابرة. والصراع
على الشرق الأوسط الجديد، لا يشمل هذه المرّة إسرائيل، بل الدول العربية، الطرف
الضعيف الحاضر دائما ليكون على طاولة المساهمات شكرا للغريزة الطائفية التي تتحكم
به. بهذه الغريزة إنساقت الدول العربية إلى لعبة الضحيّة. وساهم
أهلها، بالدور الأكبر في تنفيذ ما يخطط لها.
ليست إسرائيل وحدها، غير مستهدفة بهذا الصراع بين
المصالح، فتركيا وإيران ليستا مستهدفتين. تركيا الصديق لإسرائيل،
والعضو في حلف الناتو، لعبت دورا أساسيا، في أحداث المنطقة ولكن كشريك في لعبة
توزيع المصالح. فجأة نهض الأخوان المسلمين فيها، بعد أن أسكتهم أتاتورك
لعقود. ولعبوا لعبة سوق الضحيّة، إلى مذبح التذابح الذاتي،
ودائما على مذبح الغريزة الطائفية. تركيا استفادت
كثيرا، وأفادت الآخرين من اللاعبين معها. والحل النهائي في
سوريا الآن، ينتظر تثبيت حصتها في هذا الواقع الجديد. وحصة
تركيا كما أراها، هي قطعة أخرى من سوريا، والتي تعيش فيها غالبية سنيّة، فتضمها
رويدا رويدا كما الإسكندرون، بعد الحرب العالمية الأولى، وتقسيمات سايكس بيكو. تركيا
التي نالت من الرئيس حافظ الأسد القائد المتّوج، عند بعض السوريين القوميين
الإجتماعيين في وطننا، تثبيتا لمطالبها، في
لواء الإسكندرو، الذي كنت أسمع القوميين في شبابي، يطالبون به، فوقّع على
وثيقة معها، لهذا الغرض، مقابل وعد تركي، بممارسة الواسطة مع صديقتها إسرائيل، على
أمل إعادة هضبة الجولان له مهما تكن الشروط، وذلك لكي تكون الغطاء المناسب، في
الشارع العربي الثائر، لقبول السلام معها. خسر
الإسكندرون ولم يربح الجولان. وجاء ابنه، الطبيب
غير الملّم بالشؤون السياسيّة الدوليّة،
ليحتل مركز القائد وريثا لوالده، وسيخسر كما يبدو، محافظة إدلب في شمال
سوريا .
أما إيران، فلم تكن صديقة متوّجة لأحد. كانت
دولة تعرف لعبة الأمم، وتسعى لأن تحصل على جزء من القالب. ترك
لها اللاعبون الآخرون، أن تشارك في ذبح الضحيّة. فقد
كانت الولايات المتحدة وإسرائيل، قد رسما لها هذا الطريق، منذ عام 1979،
فساعدوا الإمام الخميني، لاستلام السلطة من حليفهم الكبير شاه إيران، من دون إراقة
دم. كانوا يريدون في حينه، منع السوفيات من إقامة
إيديولوجيات إشتراكية في الدول العربية المجاورة، فقاموا بكل ما تستوجبه خطتهم، من
تثوير للشارع الإيراني ضدهم، وكذلك بينهم وبين السنّة، من الجيران العرب. بالطبع
اختلف الوضع الآن، فهم ما عادوا بحاجة لدورها الإيديولوجي، بل لدورها الطموح في
المشاركة بلعبة المصالح. وما أسهل أن تنضم
إيران إلى قافلة الدول الطامحة بأرض العرب، فالغريزة الطائفية جاهزة تماما، للمساعدة
في لعب هذا الدور. إيران الفكر الديني الشيعي من جهة، وتركيا الفكر الديني
السني من جهة أخرى، ساهما بتحضير الضحيّة العربية وفقا للملائم. وقد
رأينا كيف تمّ تحضير الضحيّة لمصيرها المشؤوم الذي تكتمل عناصره الآن، ومن دون أي
دور إسرائيلي مباشر. كل الأطراف شاركت في اللعبة، مباشرة وغير مباشرة، أما
إسرائيل المستفيد الأكبر، ظلت خارج أي دور مباشر، واستمرت فقط، بدورغير مباشر، لا
يكلفها أي ثمن مقابل.
لطالما حذّرت من هذا الأمر. فمنذ
عام 2012 وأنا أكتب منبها إلى هذا الأمر. تجرأت
لأن أكتب مباشرة إلى نائب وزير خارجية سوريا، زميلي الدكتور فيصل المقداد. وكتبت
إلى أمين عام حزب الله بواسطة وزير الخارجية الدكتور عدنان منصور. كنت
أعلم مدى خطورة مثل هذه المراسلات على مستقبلي المهني، لكنني لم آبه، فالوطن
اللبناني والعربي كان الأغلى بالنسبة لي. ومن المؤسف بأن
كلامي ذهب أدراج الرياح.
وانطلاقا من كل ما سبق، فإن ما حدث مؤخرا في مزارع شبعا،
وعلى الخط الأزرق، كان مسرحية لا أكثر. أنا لا أخفي، أنني
كنت أرد على سؤال لشيخ جليل، قبل أقل من ساعة من تلك الأحداث، توقعت فيها، تصعيدا
للحالة في مواجهة حزب الله، لكن من بعد أن يصدر، حكم المحكمة الدوليّة بموضوع
استشهاد الرئيس رفيق الحريري. فبعد هذا الحكم
سيكون المجتمع الدولي في مواجهة حزب الله، وليس إسرائيل. إسرائيل
ترغب أن تبقى متفرجة، تلعب دورا محدودا، لا يورطها بحرب شاملة. في
سوريا، توافق الاتحاد الروسي والولايات المتحدة، مع إسرائيل على حدود دورها،
لإخراج إيران من سوريا. والنظام في العراق
وبالتعاون مع الولايات المتحدة، يتابع دوره لإخراج إيران من العراق. أما
في لبنان فالنظام برمته بدءا برئيس الجمهورية، إلى مجلس النواب، إلى الحكومة،
يخضعون لسلطة حزب الله، ولا مجال للاستفادة من دور لهم، لإنهاء دور حزب الله،
وإنهاء بالتالي، حضور إيران في لبنان.
حاول الغرب أن يتحول الشارع، من خلال ثورة 17 تشرين
2019، إلى لاعب في وجه حزب الله، لكنه لم ينجح، فحزب الله لا
يريد حربا داخليّة. جاءت الآن هذه الواقعة، على الحدود، لمعرفة مدى جديّة
حزب الله بفتح مواجهة عسكرية مع إسرئيل، فوجدت أنه لن يذهب إلى مواجهة. حزب
الله ما زال يأمل بتسوية بين إيران والولايات المتحدة، تنهي حالته المأزومة. لكن
عبثا. أيّة تسويّة الآن، صارت تفرض تنازلا إيرانيا كاملا، عن
دورها الإقليمي، والإستفادة فقط، من انفتاح اقتصادي عربي ودولي، نحوها. بكل
الأحوال فإن حزب الله هم الخاسرون. وقد رجوت بصدق، أن
نمنحه فرصة عودة أهله سالمين، إلى حضن الوطن، من خلال دمجهم في احتياط للجيش
اللبناني، تحت عنوان الاستراتيجية الدفاعية، التي تحدثت عنها في مقترحاتي للخطة
الوطنية لإنقاذ لبنان، فلا نسمح بأن يشكل سقوط حزب الله، سقوطا لقوّة لبنان. لكن
من دون نتيجة، حتى الآن. لبنان، لم ينفذ
بعد من اللعبة القائمة. لكن لدينا فرصة
كبيرة بعد أن تبنى الغرب صراحة، مبدأ
حياده، على أمل أن يظل الحضور المسيحي في وطن الأرز، الديني والثقافي، جسرا للغرب
نحو العالم الإسلامي، بكل تنوعاته. حبذا لو نلاقي
الآخرين، إلى منتصف الطريق، فندفع بالحياد، مع تبني استراتيجية دفاعية تعزز من قوة
الوطن، سواء لحماية حياده أو لاسترجاع باقي أراضيه المحتلة.
ربي أشهد أني بلغت.