بيروت - لبنان

اخر الأخبار

7 آب 2020 12:15ص بيروشيما والفساد اللبناني

حجم الخط
 بيروت مدينة مسيّلة للدموع، تماما كانت مسيّلة للفرح، لكن حتى في الفجيعة لم تستطع مدينة أن تتألق، مثلما تألقت بيروت وهي تحمل أشلاءها وأحشاءها، كمدينة للحياة والأمل المتجدد.
وفي لحظة نووية كاملة التخصيب، بدت بيروت كإسفنجة تمتص كل مقذوفات ومكبوتات الحقد والكراهية، والفساد المتناسل إفسادا متأصلا في جبين طبقة سياسية تناوبت على نحرها وذبحها من الوريد الى الوريد، حتى بدا انفجار المرفأ بمثابة الضربة ما بعد القاضية.
ومع الإعلان عن تقاطر أسراب طائرات الإغاثة والمساعدات الطبية السعودية، والأوروبية، تردّد أن جمارك مطار بيروت منعت فجر إدخال المساعدات الإماراتية لتضميد جراح بيروت وقد استشهد مع مينائها الذي غنّته فيروز، عشرات الضحايا، وآلاف الجرحى والمفقودين، ومئات آلاف المشردين خارج بيوتهم.
وفي زيارة عزاء لبيروت قال الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بأنّ بلاده ستقدم مساعدات غير مشروطة للبنانيين، وإن فرنسا ستنسّق مع الأمم المتحدة كي يستفيد منها كل أبناء لبنان.. لكن العبارة الجوهرية التي قالها ماكرون: «لا يمكن إجراء إصلاحات مع وجود فساد».
إنّه الفساد الذي تمأسس في ظل منظومة المال والسلطة والسلاح الحاكمة والمتحكمة في البلاد، والتي يمسك بناصيتها حزب الله ضمن معادلته الاستراتيجية المعروفة «غطوا على سلاحنا نغطي على فسادكم». وهي المعادلة التي وفّرت للحزب كل التغطيات المطلوبة في معابر التهريب ومسالكه الشرعية وغير الشرعية.
ما تقدّم ليس اتهاما متحاملا على حزب الله، بل الحقيقة التي يؤمن بها اللبنانيون. الحقيقة التي تعرفها جيدا الأجهزة العسكرية والأمنية والجمركية والقضائية فضلا عن الإعلامية، وهي الحقيقة المحمّية بالبيانات الوزارية لحكومات متعاقبة امتلك فيها الحزب بفائض السلاح «الفيتو» على تشكيل الحكومة كما على قرارتها.
انفجار مرفأ بيروت، هو الحدث الزلزالي الأكبر في تاريخ لبنان، وبحسب توصيفات الخبراء هو الانفجار الثاني بعد هيروشيما، من حيث مساحته التدميرية والتفجيرية الهائلة، وبات مصطلح «بيروشيما» التوصيف الذي يعطّي الدلالة الكاملة على ما أصاب بيروت.
إذن، بيروشيما، تفجير متناسل أقلّه من فساد المنظومة الحزبية والسياسية اللبنانية، التي اهتزّت أركانها بفعل الانفجار، لكنها المنظومة التي وشت بعض إجراءاتها، بمحاولة امتصاص الأسباب الحقيقية الكامنة وراء بيروشيما، الذي لا قدرة لأحد منطقيا على تمويهه عبر العبث بمسرح الجريمة وإتلاف بعض الأدلة، لكن العبث بوصفه أحد مشتقات الفساد النيتروني أيضا، متأصّل في الإدارة والأمن والقضاء والسياسة والاقتصاد والمال.
وما تعالي الأصوات المطالبة بتحقيق دولي أو عربي في تفجير بيروشيما، إلا تعبيرا عن اللاثقة في شخصيات أجهزة الدولة الأمنية والقضائية وتحقيقاتها. إنها اللاثقة المشتقة من زواج السفاح بين مكوّنات منظومة المال والسلطة والسلاح، وهي المنظومة التي سارعت بلسان وزير الداخلية الى رفض التحقيق الدولي، وهو الرفض الذي يثير الشبهات، سيمّا وأنه يذكر برفض مماثل للتحقيق الدولي باغتيال الحريري.
في جريمة اغتيال الحريري، سارعت بعض السلطة ومنها حزب الله الى اتهام إسرائيل بالوقوف وراء الاغتيال الزلزال، وأعدّوا سيناريوهات خيالية بذلت فيها جهود استثنائية تتهم إسرائيل التي لا أحد ينكر عليها إجرامها المتمادي في حق فلسطين وعبرها.
في جريمة اغتيال بيروت، وللمفارقة سارعت منظومة المال والسلطة والسلاح اياها، الى عدم اتهام إسرائيل العدوة، رغم عن كلام شهود عيان عن صاروخ أصاب المرفأ تزامنا مع تحليق إسرائيلي، وبخطاب تضليلي مرتبك ومرتجف اتهمت المنظومة مخزنا للمفرقعات والألعاب النارية بالوقوف وراء انفجار بيروشيما.
وحدها العمالة لإسرائيل هي التهمة الجاهزة لاغتيال الغاضبين من سياسات المنظومة التي تعيش وقتا مستقطعا ما قبل لفظ أنفاسها السياسية الأخيرة.
قبل انفجار بيروشيما، كانت الأنظار شاخصة الى لفظ المحكمة الدولية في لاهاي حكمها باغتيال الحريري، وكانت جهود القيادات العسكرية والأمنية تنصب على محاولة ضبط واحتواء ردّات الفعل التعبيرية عن غضب مكبوت.
وكانت الوقائع الميدانية في الجولان وجنوب لبنان والتهديدات الإسرائيلية الحزبية المتبادلة تشي بانفجار الوضع تزامناً مع إعلان حكم المحكمة بهدف التشويش عليها، علما بأنّ مسارها لم يزل طويلا.
لكن بيروشيما أطاح بجلسة المحكمة الدولية، وأجلّها لنحو أسبوعين كافيين كي تلملم بيروت أشلاءها، وتحاول أن تضمد جراحها وتعيد تمشيط شعرها وتعلم كيف تمَّ العبث بها، ولتفك ألغاز الباخرة «روسوس» لصاحبها الروسي «إيغور غريتشوشكين»، الذي تخلّى عنها بعدما أعلن إفلاس شركته المسجّلة في قبرص بعد عام على احتجاز باخرته التي وفدت الى مرفأ بيروت محملة بنحو 2750 طناً من نيترات الامونيوم في رحلة مشبوهة من جورجيا الى الموزابيق.
قصة رجل الاعمال الروسي وشركته وباخرته المحتجزة في بيروت، عنوان فاضح عن الفساد وتبييض الأموال، اللذين ينسج عنكبوت الفساد على منوالهما، كل الأعمال والعمليات غير الشرعية وغير المشروعة، كالتي اقترفتها وتقترفها منظومة الفساد اللبناني.

 علي شندب