سألتني صديقة عن مسألة بروز تجمعات اقتصادية جديدة بأسماء رنّانة على الساحة السياسية اللبنانية قائلة: أين مشروع «التمويل بالنمو» لهندسة أمن المجتمع اللبناني من هكذا تجمعات كبيرة منظمة، فيها لجان لكل مسألة لها علاقة بالإنتشار، منها لجنة اقتصادية وأخرى مالية وإعلامية واجتماعية وصحية وتربوية.
سؤالها أعادني الى ما يزيد عن الثلاثين سنة في الزمن عندما سألت نفسي ذات السؤال بعد اكتشافي تخلّف وهشاشة كافة المدارس الاقتصادية الحديثة بدءاً من الفيزيوقراط والميركانتيللية والكلاسكية والماركسية والكينزية والنيوليبرالية، لأنها جميعها وبكل بساطة لم تقم بقياس أهم وأشهى وأخطر مادة في علم الاقتصاد والسياسة، وهي «المال».. يومها سألت نفسي أين أنت من وليم بيتي وآدم سميث وريكاردو وبوانكاريه وماركس وكينز وفريدمان؟! وكيف ستجرؤ على القول بهشاشة مدارسهم وهي تتوّج علوم كل جامعات العالم؟!
ولكي أتجرأ على المجاهرة برأيي كان لا بد من البحث العميق عن نجاحات هذه المدارس وفي أي المجتمعات، كما كان لا بد من البحث في النظرية السياسية نفسها وتوصيف مهمة السلطة الحاكمة وتوليد معادلة لقياس إنتاج السلطة الحاكمة ومدى نجاحها في المهمة المطلوبة منها، وهو أمر استدعى دراسة ولادة الحضارات والعقائد الدينية وعلاقة ذلك بالاقتصاد وبأمان وكرامة وسعادة الإنسان. وبالبحث تبيّن لي وجود ثغرات مفصلية واضحة المعالم لأي عاقل دون حاجة ليكون مختصاً في الاقتصاد أو في السياسة، وأهمها مسألة تردّي قيمة المال أي التضخم المالي، فالمال هو أشهى مادة في الكون لجميع البشر والطلب عليه أكبر من الطلب على الماء والعسل، وإدخاره هدف لكل إنسان عاقل، لذلك فإن المنطق الفيزيائي يقول بوجوب ارتفاع قيمته بشكل كبير جداً، وأن انخفاض قيمته يحتاج الى قوة كبيرة تعادل قوة مقاومة جاذبية الأرض للتمكن من إطلاق طائرة أو صاروخ. واستغربت كيف أن كافة المدارس الاقتصادية تحلل التضخم دون السؤال عن مصدر الكميات الهائلة من السيولة النقدية ليتردى سعر المال ويحدث التضخم. والأدهى من قبول التضخم وإغفال كميات الضخ النقدي الهائلة بكافة أنواع العملات هو قبول المدارس الاقتصادية بالأزمات الدورية كواقع علمي لا بد من حدوثه. وهو كمثل القبول بمرض يصيب الجسم دورياً دون معرفة أسبابه أو البحث عن علاج له. فهل يوجد تخلّف أوضح وأدهى من هذا التخلّف؟ نعم يوجد تخلف أدهى وأعظم، وهو تخلّف الفكر والمناهج والمدارس السياسية التي لم تُوَصِّف وظيفة السلطة السياسية ولا كيفية قياس نجاحها في إداء مهمتها ولا كيفية محاسبتها على الفشل أو مكافأتها على النجاح، فهل يعقل أن البشرية وبعد أكثر من مئتي سنة على الثورة الفرنسية التي ولّدت العقد الاجتماعي بين الإدارة والمواطن أن يتمكن المسؤول من تدمير مجتمع كامل دون أن يرف له جفن؟ هل من المعقول أن يستمر الإعتقاد بالتوريث السياسي وبأن إبن السلطان هو صاحب العظم الأزرق وهو الوحيد المؤهل لحكم الناس؟ هل يعقل أن العالم كله ما زال يدرس السياسة على أنها فن الممكن، وأن نظرية ميكيافيللي التي تعلم الحاكم كيفية ترويض وتدجين الشعوب هي الفكر الوحيد السائد والمقبول؟
هنا يبرز السؤال الأول الذي يجب طرحه على كل من يدعي علماً في الاقتصاد أو في السياسة وعلى كل من يؤسس مجموعات تدّعي أنها قادرة على انقاذ لبنان وشعبه من الأزمة الراهنة التي أهانت كرامة اللبنانيين وقتلت خيرة شبابهم وتعمل على هجرة خيرة العقول والمواهب. والسؤال لكل الإخوة الذين انطلقوا لتأسيس التجمعات والمنتديات الاقتصادية والسياسية، وبكل إحترام، هل تعلمون ما هي العناصر التي يتشكل منها المال؟ هل تعلمون أن المال مادة لها كتلة وحجم وكثافة؟ هل درستم كيفية قياسها؟ هل تعلمون ما هو الحجم ومن الذي يستطيع تكبيره؟ أو هل تعلمون ما هي الكثافة وكيفية زيادتها؟ هل تعلمون أن من يولد النقود يستطيع الحصول على ضريبة من الناس حتى لو أخفوا مالهم في خزائن مغلقة ولم يصرحوا عنه؟ هل تعلمون أن القطاع المصرفي التجاري يولد نقوداً تتجاوز كميتها عشرة أضعاف ما تولده المصارف المركزية؟ هل تعلمون أن المال سترتفع قيمته بشكل هائل إذا لم يتم ضخ كميات كبيرة منه؟ وهل تعلمون أن نظريات تفعيل الرقابة في السياسة وفي إدارة المجتمع ترفع أعداد المرتشين وكلفة الإدارة وتعطل الإنتاج، وأن المنتج لا يجرؤ على مواجهة الفاسدين في الإدارات ويفضلهم عن الموظف «بغل العقيدة» الذي يعطل الإنتاج بحجة تطبيق القانون الذي وضعه من لا يتأثر بالنمو ولا يخسر من تعطيله؟ أسئلة كثيرة أضعها برسم كل من يرى أنه مؤهل ليضع خطة إنقاذ لبنان، فالثورة الحقيقية هي الثورة الثقافية التي تحطم الأصنام الموروثة من المسلمات العلمية الخاطئة التي تملأ علم الاقتصاد وعلم السياسة، كما أنها يجب أن تكون ثورة على الذات والأنانية الشخصية التي تسعى لإسكات صوت العقل بإستخدام صوت الطبل الكبير الفارغ والأسماء الرنانة التي تتمكن على الدوام من إسكات صوت أم كلثوم وفيروز. فلبنان وشعبه ومستقبل أجياله يحتاج الى الحكماء العاقلين القادرين على التخلي عن أنانيتهم وإعتدادهم والقادرين على الخروج من الفكر المعلب الذي لم يقدم للبنان أو للعالم إلا الأزمات والحروب والفساد، والفرصة اليوم سانحة لإصلاح كبير يتجاوز لبنان، فالأزمة الاقتصادية تعصف بالعالم، وولادة فكر وهندسة جديدة لتحقيق أمان المجتمع اللبناني ورفاهيته وكرامته ستجعل من لبنان نموذجاً عالمياً ورسالة للسلام والمحبة والكرامة الإنسانية. فالحضارات تولد عند الشعوب التي تتمكن من توليد سلاح جديد، وقد استخدم تسييل المال أواسط القرن السادس عشر كسلاح حقق نهضة علمية وثقافية واقتصادية واستعمارية أوروبية، ولكنها كانت نهضة منقوصة تزامنت مع البؤس والفقر الفر المدقع والحروب لأن من اكتشف أسرار المال يومها قد استخدم معرفته في سلب خيرات شعوب أوروبا وسلبها كل ثمرات التدنمو، أما اليوم فإن مركز «التمويل بالنمو» للدرسات،يضع بين يدي الشعب اللبناني السلاح الأكثر تطوراً في الكون، والذي سيحقق ثورة ونهضة سياسية وثقافية واقتصادية وبيئية وعسكرية، تكون نموذجاً عالمياً يحتذى وبداية لحضارة انسانية تحقق السلام والسعادة والكرامة للإنسان.