بيروت - لبنان

اخر الأخبار

12 أيلول 2020 08:46ص قراءة في مواقف فاعِليات الطوائف (2/2) مساهمة فاعليّات الطوائف غير الكاثوليكيّة من مشروع لبنان الكبير

كامل خليل الأسعد ... المفتي مصطفى نجا كامل خليل الأسعد ... المفتي مصطفى نجا
حجم الخط
أ- الطائفة الأرثوذكسيّة: 

لقد عانت هذه الطائفة ما عانته الطوائف المسيحية الأخرى من أحداث 1860، وعانى أبناؤها في الجبل ما عاناه الآخرون من ويلات الحرب العالمية الأولى. يضاف إلى ذلك أنّها فقدت الحماية التي كانت تؤمّنها لها روسيا بسبب الثورة البولشفيّة عام 1917 وسقوط النظام القيصري؛ وفقدت أيضاً، مع انهيار دولة بني عثمان، العطف الخاص والنفوذ اللّذين كانت تتمتّع بهما داخل السلطنة منذ عهد السلطان محمّد الثاني. لذا رأى أبناؤها المقيمون في المتصرفيّة وفي المدن الساحلية وفي البقاع في مشروع لبنان الكبير خشبةَ خلاص فاعتمدوه ودافعوا عنه.

لقد بنى البعض نظريات واهية على تصريح منسوب إلى البطريرك الأرثوذكسي غريغوريوس حدّاد، أدلى به أمام لجنة كينغ- كراين (King- Crane) التي أرسلها الرئيس الأميركي ولسون (Wilson) إلى الشرق للاطلاع على آراء السكان. «نحن النصارى الأرثوذكس في هذا البلد، قال البطريرك، عربٌ غساسنة، تدعونا عروبتنا لنكون يداً واحدة مع أبناء قومنا ومع الدولة العربية الشريفيّة(14) التي ارتضيناها وقبلناها»(15).

غريغوريوس حدّاد هوَ بطريرك انطاكية. كانت بطريركيّته تدور في فلك البطريركيّة المسكونيّة في استانبول وفي فلك بطريركيّة موسكو. لقد خسرت طائفته، بسبب الحرب، حماية هاتين البطريركيّتين، بالإضافة إلى خسارتها حماية القيصر والسلطان العثماني. كان الحدّاد يقيم في دمشق، وكان من الطبيعي أن يربط مصيره بمصير سُنّة سورية وأن يبايع مثلهم فيصلاً.

ولكن ما يهمّنا هنا هو موقف أرثوذكس لبنان الكبير. لقد تمثّل المقيمون منهم في المتصرفيّة، في الوفد اللبناني الأوّل إلى مؤتمر الصلح، بعبدالله خوري سعادة. أمّا أرثوذكس بيروت فتمثّلوا في وفدين من الوفود الي قابلت لجنة كينغ- كراين في المدينة. الوفد الأوّل مشترك بينهم وبين بقيّة الطوائف المسيحيّة، مثّلهم فيه ووقّع باسمهم على المذكّرة التي قُدّمت إلى اللجنة كلٌ من الفرد سرسق وميشال طراد وميشال تويني. تتلخّص المطالب التي تضمّنتها تلك المذكرة بالجملة الآتية: «الاستقلال التام للبنان الكبير بحدوده الطبيعيّة التاريخيّة والجغرافيّة، طبقاً للقرارات الصادرة عن مجلس الإدارة، واعتبار بيروت عاصمةً له»، وذلك بمساعدة فرنسا(16).

أمّا الوفد الثاني فهوَ وفد الطائفة الأرثوذكسيّة. أعضاؤه ميشال تويني وألفرد سرسق وبترو طراد وميشال طراد وميشال معماري وسعيد أبو شهلا وفرج الله حايك وشارل دبّاس. تضمّنت مذكّرته المطالب نفسها التي وردت في المذكرة المشتركة وأضيف في آخرها:

«هذه هي مطالب أبناء طائفتنا، وقد فُوّضنا لعرضها أمامكم؛ انها تمثّل أمانيهم وتطلّعاتهم [...]. ان التفويض الذي نحمله يعطينا الحق الحصري للكلام باسمهم»(17).

ماذا عن أرثوذكس طرابلس؟ كان هؤلاء في البدء قلقين على مصيرهم لأنّ مدينتهم كانت موضوع تجاذب بين الوحدويين السوريين ودعاة لبنان الكبير. ولكن بعد أن حُسم الأمر في 31 آب 1920، تمسّكوا بقوّة بهويتهم اللبنانية. ففي العام 1925 مثلاً، نتيجةً للضغط الذي مارسته الثورة السورية، طُرحت فكرةُ سلخ طرابلس عن لبنان وإلحاقها بسورية لتكون منفذاً لها على البحر. ثارت ثائرة أرثوذكس المدينة، فوجّهوا مذكّرة إلى المفوّض السامي دو جوفنيل (de Jouvenel) وقّعها أكثر من مئة وخمسين شخصاً من أعيان الطائفة وهذا نصُّها:

«اجتمعت اليوم الطائفة الأرثوذكسية في طرابلس برئاسة سيادة المطران إسكندر طحّان وصوّتت على المذكرة التالية:

«لا يحق لأي انسان أن يتكلّم باسمها بهدف ضمّ طرابلس إلى الداخل السوري. إنّها تحتجّ على أفكارٍ كهذه وتعلن أنّ أرثوذكس طرابلس هم لبنانيّون ولا يقبلون أن يعيشوا إلاّ في أحضان لبنان الكبير...»(18).

يظهر جليّاً ممّا سبق أن خيار الطائفة الأرثوذكسيّة كان لبنان الكبير. إن الذين يدّعون عكس ذلك مستندين إلى تصريح البطريرك حدّاد المذكور أعلاه هم على خطأ. إن الظروف السائدة آنذاك هيَ التي أملت على حدّاد هذا التصريح. على كلّ حال لم يكن للبطريركيّة الأرثوذكسية أي وزن في تقرير مصير لبنان ولا في تقرير مصير سورية، فالقرار هناك كان في أيدي الزعماء السنّة. أمّا أرثوذكس المدن الساحلية والمتصرفيّة، فلم يعيروا، كما رأينا، أيَّ اهتمام لموقف بطريركهم الدمشقي.

ب- الطائفة السنيّة:

حمل السنّة لواء التصدّي لمشروع لبنان الكبير وحاولوا أن يجرّوا إلى صفوفهم الطوائف الإسلاميّة الأخرى، ولكنّهم لم يوفّقوا في محاولتهم إلّا جزئياً. ربط سنّة لبنان مصيرهم بمصير اخوانهم في دمشق ونسّقوا معهم على المستويات كافةً، ونادوا جهراً بالوحدة السورية، وأرسلوا رسائل الاحتجاج والبرقيّات والمذكّرات والعرائض بالعشرات إلى مؤتمر الصلح، ولاحقاً إلى عصبة الأمم، وجنّدوا الجاليات في بلدان الاغتراب للقيام بحملات صحفيّة دفاعاً عن خياراتهم، وشاركوا في المؤتمر السوري في آذار 1920 الذي نبذ الانتداب وأعلن وحدة سورية واستقلالها، واستبعد مشروع لبنان الكبير وحصر تطلّعات اللبنانيين بمتصرفيّة الجبل ولكن ضمن شروط(19). ورفض السّنة، في العام 1926، مشاركة هيئاتهم التمثيليّة ومؤسساتهم في إعداد الدستور اللبناني الذي نصّ على تثبيت الحدود والكيان، ولم تضعف معارضتهم إلّا في منتصف ثلاثينيّات القرن، ثمّ هدأت تدريجياً إلى أن كان ميثاق 1943.

سنحاول إلقاء بعض الأضواء على موقف السنّة من خلال الإجابة على التساؤلين الآتيين:

- ما هي الأسباب الجوهرية التي دفعت بالسنّة إلى التمسّك بالوحدة السورية ورفض الانخراط في دولة لبنان الكبير؟

- هل كان هذا الرفض شاملاً وصادراً عن القيادات كافةً أم إنّ الطائفة شهدت انقساماً بشأنه؟ وهل كان طوعياً أم أتى نتيجةً لضغوط خارجية؟

إن انهيار السلطنة العثمانية وعدم قيام دولة عربيّة واسعة الأرجاء مكانها شكّلا كارثة بالنسبة إلى سنّة الولايات السورية. انهم خسروا النفوذ والسلطة وكل الامتيازات التي كانوا يتمتّعون بها داخل تلك السلطنة. إن تقسيم المنطقة إلى دويلات حوّلهم إلى أقليّة في دولة العلويين وفي دولة لبنان الكبير وفي دولة جبل الدروز، ورهن وعد بلفور مستقبل فلسطين. أما المنطقة الداخليّة من سورية فحُرمت من منفذ على البحر.

هكذا رأى السنّة أنّهم خسروا كلّ شيء. لذا سيركّزون نضالهم على انشاء كيان واسع ومتماسك يعيد إليهم شيئاً من قوّتهم ومن مجدهم المفقود. وضعوا في البدء آمالهم في الأمير فيصل بن الحسين، وطالبوا بدولة سوريّة موحّدة تضمّ ولايات حلب ودمشق وبيروت وسنجق القدس، ورفضوا الانتداب ومخطّطات الحلفاء كافةً، وبنوع خاص اتفاق سايكس - بيكو ووعد بلفور ولاحقاً مقرّرات مؤتمر سان ريمو. وكانوا قد راهنوا على مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها الذي أطلقه الرئيس ولسون وعلى تقرير لجنة كينغ- كراين؛ لكنّ ولسون انسحب من مؤتمر الصلح وتقرير لجنة كينغ-كراين ظلّ حبراً على ورق.

نصل الآن إلى تساؤلنا الثاني: هل شكّل السّنة كتلةً متراصة واجهت موحّدةً مشروع لبنان الكبير أم كان هناك خروقٌ في صفوفهم؟ وهل تعرّضوا لضغوط خارجيّة؟

من الطّبيعي، في الظروف الّتي كانت سائدة آنذاك، أن يكون المتردّدون منهم قد تعرّضوا إلى ضغط من قبل فيصل وجماعته ومن قبل الوحدويين اللبنانيين. فقُبيل وصول لجنة كينغ-كراين مثلاً، بدأت، في المدن الساحليّة حملة ترهيب في هذا الخصوص. ففي برقيّةٍ إلى حكومته، بتاريخ 10 تموز 1919، يقول جورج بيكو إنّ مفتي بيروت، مصطفى نجا، وهوَ شيخٌ متزهّد، كان يحافظ على موقف حيادي بين جميع الأطراف، ولكنّه تلقّى مناشير مرعِبة، تحمل رسم فأس مرفق بكتابة تقول إن هذه الفأس مخصّصة لقتله «إن هوَ اختار طريقاً تختلف عن تلك التي اختارتها الأمّة الاسلاميّة المؤمنة»(20).

تلقّت شخصيات سنيّة أخرى تهديدات مماثلة. وعلى الرغم من ذلك وعلى الرغم من المال الذي وزّعه اتباع فيصل، فانّ بعض الفاعليات السنيّة في المدن الساحلية طالبت بالانضمام إلى لبنان الكبير. هذا ما فعله مثلاً وجهاء مدينة صور السّنة والمجلس البلدي في تلك المدينة الذين أعلنوا جميعهم، أمام لجنة كينغ-كراين، أن خيارهم «هو الانضمام إلى دولة لبنان الكبير وطلب المساعدة الفرنسيّة»(21).

تبنّى سُنّة صيدا وبيروت وطرابلس خيارات المؤتمر السوري وتتلخّص بالوحدة والاستقلال وطلب المساعدة الأميركية أو الإنكليزية ورفض الفرنسيَة. ولكن بعض الوفود، كوفد نقيب الأشراف في بيروت ووفد علماء المدينة، طالبت بالانتداب الفرنسي(22).

نذكر هنا أيضاً، أنّه على الصعيد الفردي، فإنّ شخصيات سنيّة عديدة كحسين الأحدب الذي عيّن متصرّفاً أكثر من مرّة، وعبد الحليم حجّار، عضو الوفد اللبناني الأوّل إلى مؤتمر الصلح وغيرهما، شغلت وظائف مهمّة في إدارة لبنان الكبير وانخرطت في المجالس المحليّة وخدمت وطنها باندفاع وإخلاص.

يردّد المؤرّخون أنّ الطائفة السنيّة رفضت، في العام 1926، أن يشارك ممثّلوها في الاستشارات التي مهّدت لإعداد الدستور. يحتاج هذا الموضوع إلى توضيح.

إن الاستشارات التي سبقت اعداد الدستور جرت على مرحلتين: أولاً في العام 1925، في عهد الجنرال سّراي (Sarrail)، وكانت استشارات فرديّة. وجّه المفوّض السامي آنذاك رسالةً إلى عددٍ من الشّخصيّات اللبنانيّة، من الطوائف كافةً، طالباً منها أن تبدي رأيها في النظام السياسي المستقبلي للبنان الكبير وفي العلاقات مع الدولة المنتدبة.

لبّت شخصيات إسلاميّة عديدة، سنيّة وغير سنيّة، هذا الطلب، وعرضت في جوابها بوضوحٍ رؤيتها للأمور، منها مفتي بيروت، مصطفى نجا، وسامي الصلح، ورئيس علماء جبل عامل محسن الأمين، ورئيس بلديّة طرابلس خير الدين عدره، وعمر الداعوق، وشيخ عقل الطائفة الدرزية، حسين طليع، ورئيس قبائل الهرمل سعدالله حماده، ويوسف الزين وكثيرون غيرهم(23).

تلت هذه المرحلة الأولى مرحلةٌ ثانية، انطلقت في بداية العام 1926، مع المفوّض السامي جوفنيل (Jouvenel) الّذي أوكل إلى لجنة من 12 عضواً، منبثقة من المجلس التمثيلي، اعدادَ الدستور؛ تمثّل فيها السنّة بعمر الداعوق وعبّود عبد الرزّاق، والشيعة بصبحي حيدر ويوسف الزين، والدروز بالأمير فؤاد أرسلان. اختارت هذه من بين أعضائها لجنة مصغّرة من خمسة أفراد، من بينهم الداعوق وحيدر، مهمتها إعداد استمارة ترسل إلى أصحاب القرار والى الهيئات والمنظّمات والجمعيات استمزاجاً للآراء حول النظام السياسي الأفضل للبنان الكبير وحول العلاقة مع الدولة المنتدبة. اتخذت استشارات المرحلة الثانية هذه طابعاً جماعيّا، لذا رفضت فاعِليات السنّة في بيروت وطرابلس وصيدا وبعلبك المشاركة فيها وأعادت الاستمارة إلى لجنة الدستور، خوفاً من أن تعطي مشاركتها غطاءً سنيّا جماعيّا لدولة لبنان الكبير(24). لكنّ عدداً من زعماء السّنة كان مستاءً من هذا الموقف السلبي. وفي هذه الأجواء زار مفتي صيدا السنّي وقاضيها حاكمَ دولة لبنان الكبير، ليون كايلا (Cayla) وأقرّا أمامه أنّهما تعرّضا لضغوط وشرحا له «الظروف التي ارغمتهما على رفض الإجابة على استمارة لجنة الدستور وأكّدا له عزمهما على عدم المشاركة في المستقبل في أيّة حركة انفصاليّة»(25).

وعلى الرغم من كل هذه التحفّظات، فإنّ ممثلي السّنة في لجنة الدستور ونوّابهم في المجلس التمثيلي الذي سيناقش مسوّدة الدستور ويقرّها، عملوا بنشاط مع زملائهم من الطوائف الأخرى على انجاز هذا العمل الكبير، أي دستور 1926 الذي ثبّت الحدود ووطّد الكيان.

ج- الطائفة الدرزيّة:

كان لفيصل بعض الموالين بين الدروز، منهم أمين أرسلان ومصطفى حماده. ولكن الطائفة حافظت، بصورة عامة، على موقف مؤيّد للبنان الكبير، مع شيءٍ من الحذر. كان المدافعون عن توسيع حدود المتصرفيّة وعن الاستقلال عن سورية بين الأمراء والمشايخ كثيري العدد، نذكر منهم على سبيل المثال: الأمير توفيق أرسلان، عضو الوفد اللبناني الثالث إلى مؤتمر الصلح، ونجيب عبد الملك، عضو الوفد اللبناني الأوّل، وفؤاد عبد الملك، ونسيب ومحمود جنبلاط وملحم حمدان وغيرهم. كان البطريرك الحويك مصمّماً على اصطحاب معه، في الوفد اللبناني الثاني، عدداً من الشخصيات الإسلاميّة، وفي مقدّمهم شيخ عقل الطائفة الدرزية(26). ولكن فرنسوا جورج-بيكو، المفوّض السامي الفرنسي، منعه من ذلك، لأنّ باريس كانت تفاوض آنذاك الأميرَ فيصلاً وكانت تخشى أن تتعرقل تلك المفاوضات في حال انضمّ ممثلون عن الطوائف الإسلامية إلى وفد البطريرك.

يمكننا القول، باختصار، إنّ الطائفة الدرزية حافظت على تعلّقها بلبنان الكبير ولم تُعِر اهتماماً يُذكر لإغراءات فيصل واتباعه ولا لإلحاح الوحدويّين اللبنانيّين. تعرّض زعماء تلك الطائفة، خلال الثورة السورية الكبرى أو ثورة الدروز، بين 1925 و1927، لضغوط كبيرة لكي ينضمّوا إلى سلطان باشا الأطرش، ولكنّهم آثروا الحياد باستثناء بعضهم. وقد حاول عددٌ من زعماء الدروز اللبنانيين القيام بدور الوسيط بين السلطات الفرنسيّة والثوار، وتألّفت منهم عدّة وفود لهذه الغاية ولكنها لم تنجح في مسعاها(27).

د- الطائفة الشيعيّة:

تعرّضت الطائفة الشيعيّة بدورها للتجاذب بين دولة لبنان الكبير والوحدة السوريّة. وبعد انسحاب العثمانيين مباشرةً من المنطقة، في 30 أيلول 1918، كثّفت حكومة دمشق الفيصليّة الدعاية في الأوساط الشيعيّة، في البقاع وفي جبل عامل، وحذا حذوها سنّة المدن الساحلية الوحدويّون. تشكّلت آنذاك عصاباتٌ شيعيّة مسلّحة، تدعمها دمشق، وأخذت تهاجم القوّات الفرنسيّة المتواجدة على تخوم المنطقة الساحلية، وأحياناً القرى المسيحيّة المتَّهمة بالتعاطف مع تلك القوات.

على الرغم من كلّ ذلك، ظلّ القسم الأكبر من أبناء تلك الطائفة يصبو إلى لبنان الكبير. ظهر ذلك جليّا خلال الاستقصاء الذي قامت به لجنة كينغ-كراين. تلقّت تلك اللجنة من أهالي البقاع 15 عريضة، 11 منها طالبت بالانضمام إلى لبنان الكبير، وبالانتداب الفرنسي، و4 فقط بالارتباط بسورية(28). إن الأكثرية الساحقة من مخاتير القرى الشيعيّة اختارت لبنان الكبير والمساعدة الفرنسية، ما أغضب فيصلاً واتباعه؛ فما كان منهم إلاً أن القوا القبض على اثنين من هؤلاء المخاتير وزجّوهما في السجن(29). ولم يطلقوا سراحهما إلاّ «بعد أن اشتكى الأهالي ممّا جرى إلى أعضاء اللجنة الأميركيّة»(30).

عندما تشكّل الوفد اللبناني الثالث إلى مؤتمر الصالح برئاسة المطران عبدالله الخوري، كان مقرّراً أن يشارك فيه كامل بك الأسعد؛ لكنه اعتذر لأسباب شخصيّة وأرسل إلى الجنرال غورو تفويضاً خطيّاً ليسلّمه إلى الخوري، يسمح له بموجبه بالمطالبة، باسم شيعة جبل عامل، بالانضمام الى لبنان الكبير، وهذا نصّ رسالته مترجماً عن الفرنسيّة:

«أنا الموقّع أدناه، كامل بن خليل الأسعد، لي الشرف أن اعلمكم بأني، بصفتي مفوّضاً من قبل أبناء طائفتي، الشيعة القاطنين في جبل عامل المكوّن من أقضية صيدا وصور ومرجعيون، أعطي تفويضاً مطلقاً إلى سيادة المطران عبدالله الخوري، لكي يطالب أمام مؤتمر الصلح بضمّ جبل عامل المذكور إلى لبنان الكبير وبأن يتمتع هذا الجبل بالامتيازات نفسها تحت الحماية الفرنسيّة. يُعتبر المطران الخوري مندوباً عنّا في كلّ المساعي التي سيقوم بها في هذا الخصوص».

في 5 شباط 1920، كامل الأسعد(31).

شكّل مؤتمر وادي الحجير، كما الهجمات التي شنّتها على إثره العصابات العاملية المسلّحة(32) على صور- بسبب إصرار هذه المدينة على انتمائها إلى لبنان الكبير - وعلى القرى المسيحية المعزولة في الجنوب ومنها عين ابل، غيمةً سوداء في تاريخ جبل عامل(33). إن حكومة الأتاسي السوريّة هيَ التي حرّضت العصابات على القيام بذلك. كانت ردّة فعل سلطات الانتداب عنيفة إذ أوكل غورو إلى الكولونيل نييجر (Nieger) قيادة حملة عسكرية للاقتصاص من الجبل، فهاجمته انطلاقاً من جنوبه وفرضت غرامات على سكانه.

بعد معركة ميسلون وانهيار الحكم الفيصلي، هدأت الأوضاع نسبيّا. وبعد إعلان دولة لبنان الكبير، أرسل وجهاء الشيعة في مدينة صور، في 5 أيلول، برقية إلى الجنرال غورو هذا نصّها: «نحن مسرورون بضم مدينتنا إلى لبنان الكبير. نوجّه إلى سعادتكم شكرنا الجزيل لتعيينكم الكومندان ترابو (Trabaud) حاكماً على لبنان الكبير»(34).

تلقّى غورو بالمعنى نفسه، ومن جبل عامل، عدداً من البرقيات الأخرى، منها واحدة وقّع عليها مخاتير 16 قرية شيعيّة(35).

في العام 1923، ظهر في الجنوب تيار طالب بإنشاء كيان مستقل عن لبنان الكبير يضمّ جبل عامل والمدن الساحلية، ويقيم علاقات طبيعيّة مع لبنان والداخل السوري. تزعّم هذا التيار الحاج عبدالله يحيى وتصدّى له كامل بك الأسعد وبهاء الدين زين(36).

أثار هذا التيار ضجّة لبعض الوقت ولكنه سرعان ما هدأ، وبخاصة بعد أن أصدر ليون كايلا، حاكم لبنان الكبير، في 27 كانون الثاني 1926، قراراً يعترف باستقلاليّة الطائفة الشيعيّة ويحقّها بأن تطبّق المذهب الجعفري في إدارة الأحوال الشخصيّة لأبنائها. في اليوم نفسه، زار السّيد عبد الحسين شرف الدين مكتب ليون سولومياك (Solomiac)، ممثل المفوّضية العليا لدى دولة لبنان الكبير برفقة ثلاثة نوّاب شيعة، وأعرب له عن «امتنان أبناء طائفته للاعتراف بالمذهب الجعفري». أمّا النواب الثلاثة فأبلغوا سولومياك «نهاية كل الحركات الانفصالية في جبل عامل وانضمام الطائفة الشيعيّة بأبنائها كافةً إلى لبنان الكبير...»(37).

نتمنّى، في ختام هذا المقال، من الذين يتطرّقون في كتاباتهم إلى موقف نخب الطوائف من دولة لبنان الكبير أو يقومون بتصريحات في هذا المجال أن يأخذوا في الاعتبار موضوعين اثنين:

الأوّل، عدم الإصرار على التأكيد أنّ الطوائف الإسلاميّة عارضت جميعها قيام دولة لبنان الكبير وأن الطائفة الأرثوذكسيّة حذت حذوها. لقد أظهرنا في هذه الدراسة المقتضبة أن موقفاً كهذا يشكّل خطأً تاريخيّاً لا يجوز أن يترسَّخ في أذهان اللبنانيين وفي ذاكرتهم الجماعيّة. نحن نرى، استناداً إلى ما ورد في مقالنا هذا، أنّ سكان المناطق التي تكوّن منها لبنان الكبير، مسيحيّين ومسلمين، بأغلبيتهم المطلقة، وبغض النظر عن انتمائهم المذهبي، ساهموا، بنسبٍ مختلفة في ولادة الكيان الجديد وارتضوا به وطناً عن طيبة خاطر وشاركوا في وضع دستوره وفي بلورة نظامه السياسي. أمّا الّذين قاطعوه من أبناء الطائفة السنيّة في عشرينيات القرن الماضي، لأسبابٍ ذكرناها سابقاً، فعادوا وانخرطوا فيه بقوّة ابتداءً من منتصف الثلاثينيّات، ولعبوا دوراً أساسياً في صياغة ميثاق 1943.

الموضوع الثاني هوَ مسألة الوطن القومي المسيحي: لا يزال البعض يصرّ على التأكيد أنّ مشروع البطريرك الحويك كان يهدف إلى تحويل لبنان إلى وطن قومي مسيحي. ربّما رغبت بعض الشخصيّات المسيحيّة بهكذا وطن، ولكن بحدود مصغّرة غير تلك التي أُعطيت للبنان الكبير. أمّا خيار البطريرك حويك فكان غير ذلك. كان خياره إنشاء دولة قابلة للحياة، بحدود واسعة، مستقلّة عن البلدان المجاورة، يعيش فيها جميع أبنائها، مهما كانت طائفتهم، أحراراً، متساوين في الحقوق والواجبات، وبخاصة يعيش فيها المسيحيون، كما عاشوا في المتصرفيّة، مرفوعي الرأس، نابذين عنهم عقدة الذميّة التي عانوا منها في ظلّ الحكمين العربي والعثماني.

هل يُعقل أن يكون هدف البطريرك الحويّك إنشاء وطن قومي مسيحي، وهو الذي فوّضه مجلس إدارة المتصرفيّة الذي يمثّل الطوائف كافةً، وفوّضته شخصيات إسلامية عديدة للعمل على إنجاح مشروع لبنان الكبير، وقبلت شخصيات إسلامية أخرى، مزوّدةً بتوجيهاته، بالمشاركة في الوفود إلى مؤتمر الصلح للمطالبة بتوسيع الحدود وبالاستقلال عن أي كيان آخر قد ينشأ في الجوار؟

---------------

14- التابعة للأمير فيصل ابن الشريف حسين.

15- نقلاً عن سلام الراسي، لئلّا تضيع، بيروت، مؤسسة نوفل، ط7، 2014، ص 131.

16- Archives du ministère des A.E. de France, La Courneuve, E- Levant 1918- 1940, Syrie- Liban, v. 15, p. 48 : coupure

 du Journal du Caire du 9 juillet 1919.

 17Ibid., v. 15, p. 57: coupure du Journal du Caire du 31 juillet 1919.

18- Archives départementales de la Corrèze, Tulle, fonds Jouvenel, 5 J 39.

19- ورد، بشأن لبنان، في القرار الذي اتخذه المؤتمر السوري، في 7 آذار 1920، والمذكور سابقاً ما يأتي: «مع مراعاة جميع أماني اللبنانيين الوطنيّة المتعلّقة بلبنان في حدوده الحاضرة بشرط أن يكون بمعزل عن كلّ نفوذٍ أجنبي».

20- راجع النص الكامل لبرقيّة جورج- بيكو في:

Arch. A.E., E- Levant 1918- 1940, Syrie- Liban, v. 14, p. 178- 179.

21- راجع نص البرقيّة التي أرسلها ممثلو السنّة في صور ونص البرقيّة التي أرسلها المجلس البلدي في تلك المدينة إلى فرنسوا جورج- بيكو في 11 تموز 1919 في:

Antoine HOKAYEM et alii, Le démantèlement…, op. cit., p. 634, doc. nº 560 et p. 634- 635, doc. nº 561.

22- Archives du ministère des A.E., France, E- Levant 1918- 1940, Syrie- Liban, v. 15, p. 57, Coupure du Journal du 

Caire du 31 juillet 1919.

23- راجع نص بعض هذه الأجوبة في:

Antoine HOKAYEM, Le désengagement de la France de Cilicie et l’affermissement de son mandat en Syrie et au Liban 1921- 1926 (Documents diplomatiques français relatifs à l’histoire du Liban et de la Syrie à l’époque du mandat 1914- 1946, t. III) Beyrouth, Les Editions Universitaires du Liban, Paris, l’Harmattan, 2016, p. 734- 748.

24- حول الأجوبة التي تلقتها لجنة الدستور من فاعِليات الطوائف السنيّة في المدن الأربعة المذكورة، راجع:

Antoine HOKAYEM, La genèse de la Constitution Libanaise de 1926, Antélias, Les Editions Universitaires du Liban, 1996, p. 226-230.

25- Archives de l’Armée de Terre, Vincennes (France), Levant 4H65, Services des Renseignements, Bulletin des 

 renseignements n°40, journée du 29 janvier 1926.

26- راجع الأب إبراهيم حرفوش، دلائل العناية الصمدانيّة في ترجمة معلي منار الطائفة المارونية غبطة ابينا وسيدنا الملفان مار الياس بطرس الحويك، جونيه، مطبعة المرسلين اللبنانيين، 1935، ص 595.

27- راجع، حول هذه الوساطة، د. حسن أمين البعيني، دروز سورية ولبنان في عهد الانتداب الفرنسي 1920- 1943، بيروت، المركز العربي للأبحاث والتوثيق، 1993، ص 173- 178.

28- راجع نص التقرير الذي وضعته لجنة كينغ- كراين في: أنطوان الحكيّم وماري- كلود بيطار، المصدر المذكور، القسم الفرنسي- الإنكليزي، ص 141- 192؛ في ما خص البقاع راجع الصفحة 155.

29- كان الأمن في البقاع، خلال تلك المرحلة، لا يزال بيد حكومة دمشق.

30- Arch. Du ministère des A.E., France, E- Levant 1918- 1940, Syrie- Liban, v. 14, p. 178- 179 : dépêche nº 300 de

Georges- Picot à A.E., Beyrouth, le 10 juillet 1919.

31- النص الأصلي الفرنسي في:

Antoine HOKAYEM, Les bouleversements …, op. cit., p. 66, document nº 44.

32- حول هذه العصابات ومؤتمر وادي الحجير، راجع تمارا الشلبي، شيعة جبل عامل ونشوء الدولة اللبنانية 1918- 1943، تقديم منذر محمود جابر، بيروت، دار النهار، 2010، ص 161- 173.

33- لمزيد من التفاصيل، راجع أنطوان الحكيّم، من المتصرفيّة إلى دولة لبنان الكبير...، مرجع مذكور ص 224- 228.

34- النص في:

Arch. du ministère des A.E., France, Papiers d’Agents, Papiers du Général Gouraud, PA- AP399, Carton 61, dossier 11.

35- النص في المصدر نفسه.

36- Arch. du ministère des A.E. France, Papiers d’Agents, Papiers du général Gouraud PA- AP399, carton 75, dossier Mouvement de séparation du Grand- Liban, rapports du service des renseignements nº 263, 295, 352 et 375, Beyrouth, 

2 et 15 janvier, 6 et 14 février 1923.

37- Archives de l’Armée de Terre, Vincennes (France), Levant 4H65, service des Renseignements, Bulletin des 

 Renseignements nº 40, journée du 29 janvier 1926.




أستاذ في تاريخ الشرق الأدنى الحديث والمعاصر