بيروت - لبنان

اخر الأخبار

13 آب 2020 12:00ص مقبرة الغدر

حجم الخط
مشهد التاجي الفطري أذهل من رآه في مرفأ بيروت عصر يوم الأربعاء المشؤوم، الواقع فيه 5/8/2020.

نهض في عيني للتو، مشهد آخر يحاذيه، مشهد آخر يؤاخيه، مشهد أعظم وقعا، وأشدّ إيلاما: صنع في عيني مشهد «مقبرة الغدر»، على الفور.

على كتف نهر بيروت، كنت أصنعها، بأم عيني، كما يصنع البحارة الفلك بأعينهم أو تماما كما صنعتها الفنانة التشكيلية الفذّة «فاطمة خضر ضيا»، برهة الإنفجار الرهيب: دما وعسلا ولبنا ولبانا، وجروحا تشق أكفانها آهات وأنفاسا وموتا، تشق أنفاسنا شوقا للنهوض من جديد.

رأيت نهر بيروت في محلة الكرنتينا، نهرا أحمر، فجريان الدم يجرف أحياء بكامل ناسها، في مار مخايل والمدور والرميل والأشرفية والجميزة وشارع غورو والصيفي.

تدحرجت البيوت والمطاعم والمكاتب والشوارع والحارات، ضربها «تسونامي» الدم والغدر، في المرفأ، من «العنبر رقم 12», وكبّها للذقن، فطافت بها الدماء، في النهر: دوارا دوارا.. ودورا دورا.. وحارات حارات.. وشوارع شوارع.. وساحات ساحات.

نزل بها نهر بيروت إلى البحر، وقد جفّ به الصيف، «أنابيش عنصل».

حارات غرقى بالدماء، تنحدر من مستشفى القديس جاورجيوس، إلى مستشفى الأب الجعيتاوي، من أول الأشرفية، إلى آخر الرميل.. تنحدر بسرعة الصخر، يحط بها السيل.. ينحط بها من علٍّ.

إجتمعت الحارات، غريقة الغدر، في فلكة واحدة، تغتسل بدمائها.

تلاحمت، تداغمت، تداحت، تداحمت، إستدار حولها شريطان أحمران، فإنبسطت الحارات ترتاح على الأبيض، تكتنف به، تكتفن به، تستظل علم لبنان الكبير، فوق شارع القبيات، وقد توقف القطار بها فجأة في محلة الخضر.

إنبسطت بأكفانها، تحت عجلات الزمن الذي فاجأها.

كيف تشكّلت الصورة المشهدية؟ كيف تشكّلت «مقبرة الغدر»، بأقصى من سرعة البرق.. بأقصى من سرعة الضوء، تصنعها عيناي.. لست أدري؟!

رأيت أيادي، غرقى الدماء، تمسك بأجفانها، تنتزع من رموش عيونها، رياشا، تريش به تحويطة الأحياء والأموات، مقبرة مستجدة.

كنت أسأل نفسي، لماذا لم أرَ فيها، إلا «مقبرة الغدر». لماذا إرتسم في عيني، هذا المأتم المشهدي السوداوي، الوردي، الحي، حين نزل الصاعق على «العنبر رقم 12»، وفجّره، تاجا من غمام الموت.

«مقبرة الغدر» المستجدة، بجوار ساحة الشهداء، جددت زمن الفادي، في مبتدأ الألفية الثالثة. جددت زمن الفداء، في مبتدأ المئوية الثانية. جددت زمن الرماد الفينيقي، يصنع باللحم وبالدم، الطائر الأسطوري، يحط في مقبرة الغدر المستجدة، بإزاء «مقبرة السنطية». ينهض بلبنان من جديد، بجناحيه العملاقين. ينهضان به بلبنان، بميثاق جديد.. بشرف جديد.

طائر الفينيق، في مقبرة الغدر المستجدة، بإزاء «مقبرة السنطية»، حارسة أسواق بيروت، يجدد رسالة الفادي الأول. يرسمها بالأحمر والأبيض، من محلة مار مخايل، حتى محلة الخضر، على كتف نهر بيروت. يتجه إلى «مقبرة الغدر» المستجدة، في الميناء في فم البحر. تقتد رسالتها المستجدة من صخر لبنان، تلقم بها فم الغدر، تقف مع «السنطية» تحرس بيروت: المرفأ والأسواق والمراسي والصواري وتضع قبلة على خد البحر.

د. قصي الحسين

 أستاذ في الجامعة اللبنانية