نستذكر، في الذكرى الخامسة عشرة لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري في انفجار ضخم هز العالم بأسره، خصاله الحميدة ورؤاه الثاقبة وذكاءه الحاد ومرونته الواسعة وصبره الطويل، وحكمته وحنكته في تدوير الزوايا، ودرايته الدقيقة بأمور الدولة وخصائص مكونات المجتمع اللبناني.
مارس الشهيد الكبير العمل الوطني باعتدال وانفتاح من دون تحبّز طائفي أو تمييز مذهبي، وصب اهتمامه في إقامة دولة المؤسّسات العادلة والقادرة، وترسيخ الوحدة الوطنية والإنماء المتوازن، وتطوير الاقتصاد وتنميته، وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعية. واعتمد في ذلك على خبرته واندفاعه، وعلى الكفاءات اللبنانية وإمكاناتها الفكرية والإدارية والاقتصادية، وعلاقاته الوثيقة مع قادة الدول العربية والأجنبية المؤثرة.
ويمر لبنان اليوم في أصعب مراحله وأقساها، ووصل إلى شفير الانهيار المالي نتيجة الديون الهائلة التي تتوجب عليه والبالغة حوالى مئة مليار دولار، ما دفع بمصرف لبنان، الذي يعاني شحاً في كمية الدولارات الموجودة لديه، إلى الإعلان عن عدم قدرته على تزويد المصارف بالدولارات، ما دفعها إلى حجز أموال أصحاب الودائع وتقييد سحوباتهم، مرة في الأسبوع وحالياً مرتين في الشهر، بمبالغ ضئيلة لا تكفي لسد حاجاتهم ومتطلباتهم الأساسية، وأوقفت تحويل أموالهم المودعة لديها إلى خارج لبنان، ما أدى إلى ضرب النظام المصرفي والنظام الاقتصادي الحر، وإلى صعوبات جمة لدى اللبنانيين الذين يقيمون في الخارج والطلاب الذين يدرسون في الجامعات هناك، وجمود في الحركة التجارية وارتفاع معدل البطالة نتيجة إقفال مئات المؤسّسات التجارية وتسريح آلاف الموظفين.
وانتفض اللبنانيون بكل طوائفهم وأطيافهم في 17 تشرين الأول 2019 على السلطة الحاكمة والطبقة السياسية برمتها، محملين تبعات ما وصل إليه البلد من تدهور في الأوضاع الإدارية والاقتصادية والخدماتية والمالية والنقدية، على عدم كفاءتهم وافتقادهم الرؤيوية الحكيمة وفسادهم وإهدارهم المال العام، وتعبئة مراكز الدولة الرئيسة بأنصارهم الفاسدين وغير الأكفاء، وتقاسمهم موارد الدولة بالصفقات المشبوهة والمشاريع الوهمية.
ومن الأسباب الرئيسة التي أوصلت لبنان إلى هذا الدرك من الانحدار تحكّم حزب مدجج بالسلاح، بذريعة مقاومة العدو الصهيوني واستعادة ما بقي من أراضٍ محتلة في الجنوب، على القرار الوطني للدولة وعلى موانئها البرية والجوية والبحرية التي له في كل منها مناطق غير خاضعة لسلطة الدولة، يتم فيها إفراغ البضائع العائدة له ولأتباعه، ونقلها إلى الخارج من دون المرور بالمعابر الأمنية والجمركية، الأمر الذي يحرم خزينة الدولة عائدات سنوية بمئات ملايين الدولارات، هذا عدا عن تهريب البضائع عبر الحدود غير الشرعية التي يسيطر على معظمها.
وأدى تدخل «حزب الله» في الشؤون الداخلية لدول مجلس التعاون الخليجي وهجومه المتواصل على قادتها، وتدريب المعارضين لأنظمتها في معسكراته في لبنان، إلى طلب هذه الدول من رعاياها التوقف عن زيارة لبنان للسياحة والاصطياف والكف عن الاستثمار فيه، ما أدى إلى انكماش كبير في اقتصاده وفي وارداته من العملة الخضراء. وما زاد الطين بلة تصفية الرعايا الخليجيين لأعمالهم في لبنان وبيع ممتلكاتهم فيه.
وفي الوقت الذي يسير لبنان في انحدار مرعب، يتلهى المسؤولون بتقاذف التهم والمسؤوليات بينهم وتأمين مصالحهم الخاصة. وبدلاً من مقاربتهم للأمور الخطرة بمسؤولية وطنبة عالية، والاستماع إلى مطالب المنتفضين في الشارع منذ اكثر من ثلاثة أشهر، وأهمها تشكيل حكومة من الاختصاصيين المستقلين الحياديين، إذ بهم يشكلون حكومة موظفين عند سياسيين من الأتباع والمستشارين.
ولن يكون بإمكان هذه الحكومة إنقاذ لبنان من أزمته المالية والنقدية المستفحلة، بسبب تركيبتها السياسية المناوئة لدول الخليج التي تشكل مصدراً أساسياً للدعم المالي، والخبرات المحدودة لأعضائها، وعدم تضمين بيانها الوزاري جدولاً بالإصلاحات الاقتصادية المطلوبة، وقرب صدور حكم المحكمة الدولية بجريمة العصر التي أودت بحياة من أعاد إنماء لبنان وإعماره، الأمر الذي سيزيد من تأزم الأمور بين الحكومة والثوار الرافضين لها وللنهج الذي تعتمده في التعامل معهم، والناقمين في الوقت ذاته على العهد لعدم اكتراثه لتحركاتهم ومطالبهم، ولجوء أنصاره إلى استخدام الخطاب الطائفي والعنصري التحريضي العالي النبرة الذي يؤسّس، لا سمح الله، فيما لو تمادوا فيه إلى الحرب الأهلية.
ومن الأمور المثيرة للاستهجان التعامل مع ملف الكهرباء الذي تسبب بعجز كبير في الموازنة وكلف الخزينة نصف الدين العام، بخفة، وتسليمه مرة أخرى إلى الفريق السياسي الذي كان مسؤولاً عنه لمدة عشر سنوات وأوصله إلى هذه الحالة من التردي.
إن على الحكومة العمل بعد نيلها الثقة على قوننة الإصلاحات الاقتصادية والمالية المطلوبة من المجتمع الدولي ومؤسّسات المال والنقدد العالمية، وإصدار قانون انتخاب عصري ومتطور، وقانون استقلالية القضاء وإلغاء المحاكم الخاصة، وقانون استعادة الأموال المنهوبة والأموال التي هُربت إلى الخارج بعد 17 تشرين الأول، ومحاسبة الفاسدين والناهبين للمال العام، وترشيق الإدارة ووضع اليد على الأملاك البحرية وغيرذلك كثير. فهل تُقدم على ذلك، أم أنَ تركيبتها تحول دون ذلك؟
وفي هذه الأيام القاتمة السواد يفتقدك لبنان يا دولة الرئيس الشهيد ...