الزمن غدار.. والحياة انحدرت إلى المهوار.. وما عادت تتسع لنا الدار لشدّة الانهيار.. الاكتئاب والعوز على مدار الليل والنهار.. حتى صورنا أصبحت نسخة طبق الأصل عن صور باسبورات السفر بمعالم مقلوبة لا تشبهنا.. أما السفر فقد أصبح الخيار لاشتداد الدمار في بنية المواطن المنهار..
إذا كانت هذه حكاية أكثر من 65 بالمائة من الشعب اللبناني.. تُرى ما هي الأسرار خلف الجدران؟!.. قهر وشح وجوع جبّار.. لا يرحم الصغار والكبار.
حكاية من صلب المآسي عشتها يوم الجمعة الماضي.. نزلت إلى الشارع أبحث عن سيّارة تقلّني إلى صيدلية تتضاعف أثمان الأدوية فيها.. لكنّك تجدها خاصة إذا كانت لعلاج حالات القلب.. وبالتحديد في شارع رشيد نخلة وجدتُ السيّارة.. أخبرته بوجهتي لكنّني عففت عن الصعود لأنّه بلا كمامة.. قال: كمامتي معي.. قلت: إنّها لتحميك وتحمي الركّاب وتحمي عائلتك.. ليتني لم أذكر عائلته.. ضرب رأسه بالدريكسيون وراح ينتحب.. وقال: يجب أنْ أموت يا حاجّة.. عندي أربع بنات وصبي عمره أربعة أشهر، منذ مساء الأمس ليس لديَّ ثمن علبة الحليب الذي يبلغ 38 ألف ليرة وبناتي يغمسن الخبز بالماء الساخن لأنّني لا أستطيع شراء الشاي.. الأولاد لم يذوقوا اللبنة ولا الجبنة منذ أربعة أشهر وحتى الزعتر الناشف بدون زيت انتهى وجوده من البيت.. كنتُ أقول له بالله عليك توقف عن هذا الكلام.. بعد أنْ اعترتني موجة صقيع وكأنّني أعيش في سيبيريا وأكاد أنهار..
وصلتُ إلى الصيدلية واشتريتُ الدواء مستوقفة إيّاه ليُعيدني من حيث صعدت.. في الطريق كان يهذي بكلام مُبهم لحرقة قلبه «حرق الله قلوب حرامية لبنان».. قبل أن أصل إلى نفس المكان الذي صعدت منه.. أعطيته ما تبقّى في حقيبتي قائلة: إذهب فوراً واشتري الحليب لإبنك وفروجين للبيت ولبنة وجبنة وخلافه.. الله يرزقنا من نعيمه ويرزقك أصرَّ السائق وهو يبكي ويشهق أنْ أدلّه على عنواني حتى يُعيد لي المبلغ.. قلتُ له: مال الله لله.. والله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب.. إفعل ما قلته لك ولا أريدك أن تقبّل أقدام أحد.. بل أشكر الله أنّه وضعني في طريقك.. إذهب قرير العين حلّيت لك المشكلة لليوم.. مع تحياتي للأولاد؟!