بيروت - لبنان

اخر الأخبار

حكايا الناس

21 شباط 2019 12:00ص هارب من ذاته!

حجم الخط
تجاوز القاطع الإسمنتي الفاصل لمنتصف الطريق السريع.. وراح يعدو راكضاً خلف كيس أسود.. فاقمت حجمه ريح شباط العاصفة.. لكن ضحكته كانت ترن في الأرجاء.. غير عابئ بهموم الدنيا.. أو متهيباً ما قد تخبئه الحياة.. رغم أنّ كل ما يبدو عليه.. يفتح جرحاً في صدر الإنسانية المهدورة والطفولة المسلوبة..
إنّه طفل أغلب الظن لم يتجاوز الرابعة من عمره.. ما يستر به جسده قد نبالغ إنّ وصفناه بالثياب.. بل هو أكثر من بقايا خِرَق بالية تدثّر الجسم النحيل الصغير.. أملاً بأنْ تقيه «حواميل» المطر الهاطل من بوابات السماء.. فيما ينتهك الإسفلت نعومة قدميه الحافيتين.. حتى أحالهما حجارة من صوّان أسود.. معفّر بقاذورات الطريق ومياه العمر الآسنة..
مرتعداً من برده.. لكنه باش الوجه.. ترقص شفتيه من ألم الصقيع.. وتغنّي أسنانه اللبنية الصغيرة أناشيد وجع العمر.. وتعزف قطيرات المطر على وجهه الشاحب.. سيمفونيات غضب الروح من زمن غدّار..
ورغم كل ما يمره به.. كان همّه الأكبر إلتقاط ذات الكيس المتّسخ أصلاً.. لكنّه لاقى به سلوته ففزع إليه هارباً.. من حياة وطأته بأشواكها.. قبل حتى أنْ تعرف قدماه معنى الاتزان والسير..
راح يضحك ويضحك.. والفرح يخرج من عينيه.. وكأنّه شُهُب تُنير ظلمة الغيوم.. التي أحالت صبيحة ذاك اليوم إلى عتمة كاظمة مكفهرّة.. لكنّه لم يأبه بل صديقه الكيس الأسود أبدى وأهم.. حتى ولو نزلت به حمى شتوية.. فأين منها فرحته بطيران الكيس وتحليقه خلفه.. كفراشة تتجاوز نواميس الزمان.. وتخترق قواعد العلم والفيزياء.. فتقترب من النور وتزداد إشعاعاً دون أنْ يرديها..
ركن «صاحبنا» سيارته إلى جانب الطريق.. وفتح نافذتها محاولاً مناداته.. وكرّر مناداته مرّات عدّة.. إلى أنْ كلَّ من النداء.. فيما أوشك الصغير على الاختفاء عن ناظريه.. فترجّل من السيارة رغم الطوفان الشتوي.. ومضى خلفه محاولاً تقديم أقل القليل.. من توفير التدفئة له أو حتى لعبة تسلّيه.. لكن ما كان له من الخير نصيب.. إذ اختفى في مجاهل الحياة.. وما عاد له أثر يُذكر.. أشبح كان أم وهم؟.. أم روح معذّبة هربت من ذاتها إلى مصير مجهول؟!




أخبار ذات صلة