بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 حزيران 2020 12:02ص المسمار الأخير في نعش النظام المصرفي

حجم الخط
«تفاءلوا بالخير تجدوه» مقولة لم يكفّ أو يملّ الرئيس الراحل رشيد كرامي من تردادها عندما كانت الصواريخ تتهاطل كالمطر أثناء الحرب الأهلية التي أصابت لبنان وما زال نعيش تداعيتها، وقد باتت هذه المقولة محل تندّر الساسة والناس، وقد انقرض تداولها لصالح دعاء «الله يستر» تعبيرا عن إنسداد الأفق في لبنان المأزوم الى ما بعد بعد الإختناق.

الله يستر والآتي أعظم، فلا أحد يدري بالدقة ما الذي ستمطره السحب الوافدة عبر المحيطات، في لحظة تهتز فيها الخرائط والشرائط الحدودية في غير بلد، ويعيش العالم ركودا اقتصاديا وصراعا على النفوذ والطاقة تزامنا مع تفشي فيروس كورونا الذي لم يتمكن الطب من فك شيفرة جيناته المهجنة وأنزيماته المركبة لدرجة تعذّر فيها تحديد أبويه الحقيقيين وطرق تناسله وتكاثره وأسلوب انتشاره الذي بات أحجية لا مفر من التعايش المرّ معه ومعها حتى اختراع الترياق الشافي منه. وهو الترياق الذي لم تتمكن منظومة المال والسلطة والسلاح الحاكمة والمتحكمة في لبنان من تأمينه لمعالجة الأزمة الاقتصادية المالية التي قادت لبنان الى الانهيار الذي باتت هذه الطبقة السياسية تسلّم به بعد إنكار، وهو الانهيار الذي تعيشه سوريا أيضا، والمرشح لمزيد من الانهيار مع بدء سريان قانون قيصر الأميركي الفارض لعقوبات على سوريا والمتعاملين معها ومنهم لبنان الذي سبق لمرشد الجمهورية حسن نصرالله أن استبقه بالدعوة الى إقامة «سوق مشرقية» تضم الى لبنان، سوريا، العراق وإيران وهي الدعوة التي أجهضها في مهدها «قانون قيصر» قبيل تطبيقه، كما أجهضها إلغاء الولايات المتحدة استثناء العراق من العقوبات جرّاء تعاملها التجاري والكهربائي مع إيران.

لكن اللكمة الجديدة التي تلقّاها لبنان الرسمي المحكوم من حزب الله، تمثلت بالكشف عن عقوبات جديدة أوصت «لجنة الدارسات في الحزب الجمهوري» في مجلس النواب الأميركي بفرضها على النظام الإيراني وعلى شخصيات رسمية لبنانية متحالفة مع حزب الله، مثل رئيس مجلس النواب اللبناني و«حركة أمل» نبيه بري ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل وجميع البرلمانيين الحاليين أو المستقبليين ووزراء «حزب الله» في الحكومة بمن فيهم من يصنّفون أنفسهم مستقلين عن الحزب مثل وزير الصحة السابق جميل جبق والنائب جميل السيد الذي هدّد المتظاهرين أمام منزله بإطلاق الرصاص القاتل عليهم، وفي خطوة لافتة نصّت توصيات اللجنة الأميركية بفرض عقوبات حتى على فوزي صلوخ وزير الخارجية السابق وغير الفاعل في الحياة السياسية. لكن التوصية البليغة الدلالات وغير المسبوقة في العلاقات اللبنانية - الأميركية فكانت بقطع المساعدات عن الجيش اللبناني الذي لطالما تفاخرت واشنطن في الاستثمار بتدريبه وتسليحه وتجهيزه. لكن اللجنة الأميركية التي أوصت بمعاقبة جبران باسيل، استثنت من توصياتها الوزير السابق سليمان فرنجية صديق بشار الأسد والحليف ما قبل الأول لحزب الله، وهو الاستثناء الذي يقرأ بمثابة «فيتو» استباقي على وصول باسيل الى قصر بعبدا، دون أن يشكّل تحفّظا على سليمان فرنجية المرشح الجديّ لرئاسة الجمهورية والمدعوم من ترويكا نبيه بري، سعد الحريري ووليد جنبلاط.

وبالعودة الى الجيش اللبناني فقد كانت لافتة خشونته في التعامل مع مظاهرات 6 حزيران التي رفع بعضها شعارات مطالبة بنزع سلاح حزب الله وتطبيق القرار 1559، والتي كادت تتحوّل الى كارثة فتنوية كبيرة بفعل ممارسات مؤيدي «الثنائي الشيعي» الذين تطاولوا على المقدسات الإسلامية - المسيحية في منطقتي الطريق الجديدة ذات الثقل السنّي وبربور معقل حركة أمل وحزب الله المقابلة لها في بيروت، وفي عين الرمانة المسيحية والشياح الشيعية في الضاحية الجنوبية، في خطوة تعكس توترا وحساسية كبيرة لدى حزب الله جراء تنامي أصوات المطالبين بنزع سلاحه بوصفه الحامي ما قبل الأول للطبقة السياسية المتساكنة معه في معادلة «غطّوا على سلاحنا نغطي على فسادكم»، وهي المعادلة التي أنجبت منذ يومين تعيينات مالية وإقتصادية وإدارية في حاكمية مصرف لبنان وغيره في نموذج سيئ ورديء من ذهنية المناتشة المحاصصاتية بين ميليشيا المال والسلطة والسلاح انعكست ارتفاعا محموما وغير مسبوق في سعر الدولار الذي وصل لحدود السبعة آلاف ليرة كانت كافية لتفجّر موجات الغضب العارمة ولإقفال الكثير من المؤسسات الغذائية والتجارية أبوابها في بيروت وطرابلس والنبطية وعكار والبقاع والتي شملت قطع الطرقات بالنيران والحجارة ومهاجمة فروع عدة مصارف وتكسيرها وإحراق بعضها بينهم مدخل فرع مصرف لبنان في طرابلس التي استهدف فيها أيضا بعض مخافر قوى الأمن الداخلي، لكن مظاهرات الغضب من التعيينات وارتفاع الدولار تخلّلها مشاركة القوة الناعمة في حزب الله وحركة أمل متمثلة بمواكب الدراجات النارية التي انطلقت من الضاحية الجنوبية باتجاه بيروت لتشعل ليلها ولتوجّه بوصلة الغضب باتجاه المصارف وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة بهدف تحميله وحده مسؤولية انهيار سعر الليرة أمام الدولار، رغم أن هذه المسؤولية تتعدّى حاكم المصرف المركزي الى الحكومات والمجالس النيابية المتعاقبة الذين أقرّوا الموازنات والخطط الاقتصادية والمالية وخصوصا في قطاع الكهرباء الذي يشرف عليه جبران باسيل أو ممثليه في وزارة الطاقة والتي أدّت الى الانهيار الكارثي.

وفي حين أخلى الجيش اللبناني الساحات أمام مواكب الثنائي الشيعي في بيروت (بخلاف دوره في مظاهرات السبت 6 حزيران) إلا أنه واجه المحتجين في طرابلس وعلى مدى اليومين الماضيين بالقنابل المسيّلة للدموع بهدف تفريقهم، ما يعكس نوعاً من التماهي بين الجيش اللبناني وحزب الله في مظاهرات السبت 6 حزيران وأيضا يومي الخميس والجمعة 11 و12 حزيران في بيروت الذين تميّزوا بارتفاع وتيرة التعبير عن «نوبة جوع» مستجدة تكوي أمعاء أبناء بيئة «أشرف الناس» من جهة، ونوبة عشق وطني مستجد تجاه المسيحيين في عين الرمانة والسنّة في بيروت بهدف التغطية على نوبة الجنون الفتنوية التي شتموا فيها مقدسات إسلامية ومسيحية من جهة أخرى. ولعلّ التماهي بين الجيش اللبناني وحزب الله هو الذي دفع اللجنة الأميركية الى التوصية بقطع المساعدات الأميركية عن الجيش رغم اعتبار وزير الخارجية الأميركية بومبيو «أن مساعدة الولايات المتحدة للقوات المسلحة اللبنانية مفيدة». وللمفارقة فقد كان لافتا «إحتماء» بعض المحتجين في إحدى تظاهرات طرابلس بهتاف «شيعة شيعة شيعة» أمام ضباط وجنود الجيش اللبناني بهدف إحراجه التمييزي في التعامل بينهم وبين متظاهري حزب الله الذين سبق وأن أحرقوا خيم المعتصمين في بيروت واعتدوا على المتظاهرين دون أي تدبير بحقهم من قبل القضاء والقوى الأمنية.

وعلى صخب المظاهرات العنيفة في بيروت وطرابلس والتي تمكّن حزب الله من توجيهها باتجاه حاكم مصرف لبنان لتحميله مسؤولية انهيار قيمة الليرة بهدف إقالته من حاكمية مصرف لبنان بعدما استكملوا التعيينات في جهازه التنفيذي والإداري، عقدت الحكومة جلستي عمل خلال يوم الجمعة تخللها خلوة ضمّت الرؤساء الثلاثة حيث أعلن نبيه بري بإسمهم أنه «تم الاتفاق على تخفيض قيمة الدولار إزاء العملة اللبنانية ابتداء من اليوم الى ما دون 4000 وصولا الى 3200 ليرة والاتفاق على مخاطبة صندوق النقد الدولي بلغة واحدة»، وحول إقالة حاكم مصرف لبنان قال بري «نحن بحاجة اليوم الى كل الناس ولا يجب الاستغناء عن أحد من الناس»، ما يعني عمليا أن المظاهرات التي استهدفت مصرف لبنان وبقية المصارف في كل المناطق قد أدّت غرضها المتمثل برضوخ حاكم المصرف المركزي الذي بات رهينة في يد حزب الله في مقابل «قانون قيصر»، ويعني أن بري برفضه إقالة رياض سلامة قد غازل الأميركيين الذين ربما سيسحبون اسمه من لائحة العقوبات، ويعني أن حسن نصرالله تمكّن من إخضاع كل مؤسسات الدولة ورموزها لسطوته لكنه خضع أمام جبران باسيل في معادلة «سلعاتا مقابل السلاح».

وفق هذا السياق الضاغط سيضخّ رياض سلامة نحو ثلاثمائة مليون دولار في السوق الأسبوع المقبل ستتدرج لتلامس المليار دولار بهدف تمويل شراء المازوت والمواد الأساسية بسعر الدولار المدعوم من الدولة وهو الضخ الذي ضاعف من إستفزاز وغضب المحتجين الذين وجدوا فيه ضخا عابرا للحدود غير المقفلة أمام التهريب الشرعي وغير الشرعي.

هذه التطوّرات المتسارعة تزامنت مع إشاعات تجاوزت الكلام عن ارتفاع سعر الدولار منها أن قائد الجيش جوزف عون سيصدر بيانا يطلب فيه من القوى العسكرية عدم التصدّي للمتظاهرين وهي الإشاعة التي نفتها قيادة الجيش، ومنها إشاعة الإتفاق على إقالة رياض سلامة التي استبدلت برضوخه. لكن للإشاعات في لبنان قصة أخرى لأن مخزن الأسرار مصاب بثقوب كثيرة، وهي الثقوب التي تتماثل فيها الإشاعات مع الحقائق التي تقول في آخر تجليّاتها أن ما جرى باختصار هو دق المسمار الأخير في نعش النظام المصرفي اللبناني.

علي شندب