سيكون المسار الذي سيحكم مفاوضات التأليف هو المؤشر الأول لسمة المرحلة وتحييد لبنان عن الاستحقاق الإيراني الآتي
بدا ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي كان هدفاً مباشراً في الهجوم على السعودية على خلفية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشجقي في قنصلية بلاده في إسطنبول، وقد استعاد المبادرة في منتدى «مبادرة مستقبل الاستثمار» الذي انعقد في الرياض، متخطياً لحظة حرجة وضاغطة على المملكة في ظل حجم الاستهداف السياسي الذي تعرّضت له، والذي يطال في العمق مشروع «السعودية الجديدة» الذي يُجسّده بن سلمان بأضلعه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والذي قدّم من خلاله أيضاً رؤية حداثة وانفتاح للإسلام بما تمثله المملكة من دور ومسؤولية تجاه العالم الإسلامي يؤهلها أن تحتل كرسي الإسلام الحضاري في النظام العالمي الجديد.
والأهم أن الاستهداف السياسي يطال البُعد الاستراتيجي للمملكة في المنطقة، حيث شكّلت الشراكة السعودية - الأميركية في زمن الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده وزمن دونالد ترامب نقطة تحوّل كبيرة. لكنه كذلك يطال في العمق الرئيس الأميركي الذي يواجه استحقاقات داخلية على أبواب الانتخابات النصفية للكونغرس، ما جعل قضية خاشجقي تتحوّل إلى مادة دائمة في الإعلام الأميركي المناوئ لترامب ليس بوصفها قضية رأي عام، بقدر ما هي مسألة يجري توظيفها في التصويب على معركة القيم لدى سيد «البيت الأبيض» في علاقاته وتحالفاته كجزء من المعركة ضده.
ولم تتوانَ جماعات الضغط في إيران، سواء الإيرانية أو تلك المؤيدة لجماعة الإخوان المسلمين، عن توظيف «مأزق المملكة» للنيل من ترامب إزاء الملفات الخارجية، سواء تلك المتعلقة بتركيا أو ما يتعلق منها بالمواجهة مع إيران التي سيبدأ في الرابع من تشرين الثاني المقبل تطبيق الحزمة الأقسى من العقوبات عليها، والتي تشمل تصدير النفط. حتى أن مسار الضغوط التي تمارسها دول أوروبية وحجمها وطبيعتها وتلويحها بالذهاب بعيداً في خطواتها، أظهر حجم الامتعاض من الحليف الأميركي، على خلفية العلاقة المتوترة مع ترامب، التي لا تنحصر بالملف الإيراني فقط، لكنه راهناً الملف الأكثر تحدياً لها، في ظل المخاوف الفعلية من أن تفضي العقوبات المقبلة إلى القضاء على الاتفاق، أمام عجز تلك الدول عن المضي في عقود الاستثمارات الضخمة التي وقعتها مع إيران وعلى ضمان نجاح خططها للالتفاف على العقوبات.
وإذا كان انكشاف حيثيات مقتل خاشجقي قد كشف حجم اختراق أجهزة الاستخبارات التركية وغير التركية للقنصلية السعودية، فإن «سياسة التسريبات» لوسائل الإعلام، التي أدارتها بإتقان طواقم عمل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ساهمت في تحسين موقعه على الخارطة الإقليمية والدولية. وتندرج إشارة ولي العهد السعودي إلى أنه لن يحدث شرخ بين تركيا والسعودية طالما هناك ملك اسمه سلمان بن عبدالعزيز وولي عهد اسمه محمّد بن سلمان في السعودية ورئيس في تركيا اسمه أردوغان في إطار أول الأثمان التي حصدتها أنقرة، والتي سبقتها صفقة تركية - أميركية في شأن إطلاق سراح القس الأميركي أندرو برانسون المحتجز في تركيا بتهمة الإرهاب.
على أن أهمية إطلالة محمد بن سلمان في «منتدى الرياض» تكمن في تلاشي الرهانات على تغييرات قد تطاله. فالرجل وجّه رسالة واضحة على أنه ماضٍ في الرؤية التي يحملها، حتى أنه تعمّد استخدام تعبير «حربي التي أخوضها شخصياً»، حين تحدّث عن أنه طموحاته للشرق الأوسط الذي سيكون «أوروبا الجديدة» في غضون سنوات. فهو أعاد التقاط اللحظة لتوجيه الرسائل في مختلف الاتجاهات على أنه «الرجل القوي»، حتى ولو أن كثراً أردوا أن يقاطعوا المنتدى لممارسة ضغوط «العزلة»، وإن كانت «عزلة ظرفية»، وعلى أن ثمة عالماً عربياً لا أحد يستطيع أن يلغيه، وأن لديه إمكانات اقتصادية كبيرة قادرة أن تضعه في مقدمة مصاف الدول.
ولعل من هذه الزاوية، تكتسب زيارة الرئيس المكلف سعد الحريري للمشاركة في المنتدى دلالات متعددة. فمشهدية الحريري - بن سلمان لا يمكن قراءتها على أنها مشاركة رئيس حكومة في منتدى اقتصادي كان معداً لأن يكون «دافوس الصحراء»، على غرار «منتدى دافوس» أو المؤتمرات الكبرى التي يشارك فيها على الدوام قادة الدول. المشاركة في توقيتها وظروفها، من شأنها أن تفتح المجال أمام إعادة رفع العلاقة مع المملكة إلى مستويات سابقة شهدتها في زمن الحريري الأب وفي سنوات تسلم الحريري إرث والده السياسي. لا شك أن الرجل بقي على الدوام في خانة حلفاء المملكة، لكن العلاقة مرّت في حالة «صعود وهبوط»، حتى أن ثمة من أعطاها في فترة من الفترات صفة «علاقة الضرورة»، وذهب البعض إلى القول إنه لم يعد الحليف الأقوى للمملكة في لبنان، بل تقدمها رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، وأن ترك «سعودي أوجيه» التي شكلت رمزاً للقوة السعودية الناعمة، تلقى مصير الإفلاس كانت إيذاناً بانتهاء الزمن الذهبي للحريري.
جاءت مشهدية الحريري - بن سلمان، في توقيتها لتشكل حاجة لدى الرجلين، الأول كان بحاجة إلى إعادة وصل ما انقطع، والثاني إلى وقوف مَن يُفترض أنهم حلفاء إلى جانبه في لحظة محاصرته. ثمة استنتاج بديهي أن للخيارات أثمان. وفي اللحظة الحرجة، وقف الحريري إلى جانب المملكة وولي العهد تحديداً. وسيكون هناك في المقابل تعويم للحريري ودعم مطلق، لا بد من أن يعيده إلى الموقع الأول.
ولكن أي تداعيات سيحملها هذا الالتصاق على المشهد الداخلي. قد يكون من المبكر الجزم بمآلاته على تأليف الحكومة أولاً، وعلى العلاقات مع كل من رئيس الجمهورية و«حزب الله» ثانياً، وعلى علاقاته مع الحلفاء ثالثاً. ثمة كثر على ضفتي الخصوم والحلفاء نظروا إلى هذا «التلاحم» بين الرجلين، وكل لحساباته، وسيكون المسار الذي سيحكم مفاوضات التأليف هو المؤشر الأول لسمة المرحلة المقبلة ومدى الرغبة والقدرة في تحييدها عن الاستحقاق الإيراني الآتي على الطريق قريباً.