التجارب أكثر أساتذة العباقرة حضوراً في نتاجهم.
الطفولة حيناً، الشباب أحياناً، والتقدّم في السن من وقت لآخر يعتبر باباً للولوج إلى الذات الإنسانية وإفراغ ما فيها من محتوى ومخزون، لكن أن تكون الحياة بكل تقلّباتها حافزاً للدخول إلى حرم الكتابة وإعطاء الإنطباع بأن الدنيا موجودة في الذاكرة الخصبة وهي موضع تشريح، وتقييم، تصبح الأمور على مرمى حجر من الفلسفة الوجودية التي تخرج إلى النّاس بصور تتلألأ نوراً وحكماً وشفافية مطلقة.
والواقع أن هذه الأجواء تشكّل حيّزاً رحباً من أفكار الكاتبة نهاد أ. ناصيف، التي جمعتها في كتاب صدر بالانكليزية تحت عنوان: (Arab humanist) (إنسانية عربية) أهدته إلى إبنها (أغلى من الهواء الذي أتنفسه، الذي أحبني دائماً من دون شروط) ووالديها (الراحلين) «وكل أولئك الذين ساعدوني على طول الطريق»، و«جميع أولئك الذين ليسوا شجعاناً بما فيه الكفاية لرفع صوتهم بعد» و«كل أولئك الفقراء والضعفاء الوحيدين والمنسيين»، و«الجميع ينابيع الحنان الذين يبذلون أنفسهم في سبيل رعاية الآخرين».
ومن الأفكار التي تطرحها الكاتبة «نهاد» على صورة خواطر حيناً، ولوازم إجتماعية إنسانية أدبية عميقة، ما تضعه في خانة الجهد الإنساني الذي يبذله البعض من دون تعنيف أو إستقواء ضد من يساعدونهم في الحياة، وتشعر بأن هناك واجباً لمساندة الذين تزوجوا تحت الضغط وتمّت إدانتهم بسبب رغبتهم في الطلاق، كما تجد نفسها معنية بقضية الذين يتعرّضون للغش والإيذاء من جانب الأقوياء والأثرياء.
الكاتبة «ناصيف» تجد نفسها إلى جانب «من يتعرّضون للتمييز بسبب عرقهم أو لونهم أو أصلهم القومي أو جنسهم أو ميلهم الجنسي أو التعبير عن الجنس، أو العمر أو الطول، أو الوزن أو القدرة البدنية أو العقلية أو الحالة الزوجية».
هي عربية أميركية من أصل لبناني، كانت في العاشرة من عمرها عندما إشتعلت الحرب على لبنان عام 1975، عرفت الكثير من صنوف التشرّد والفقر والإعتداء والحصار وطبعاً من تبعات المعارك وتداعياتها، وقد وسّعت «نهاد» رقعة إهتمامها فأعطت المرأة حيّزاً واسعاً في كتابها: «إنسانية عربية» ودخلت على موضوعي الحجاب، وتطرّقت إلى العذرية، ورصدت قضية التحرش والعنف الجنسيين، والزواج المبكر، وعمل الخادمة في المنازل، مضافاً إلى كل هذا حقوق الطفل ومنع أي مسّ بطهارته وقيمته وشفافيته، خصوصاً وأن لها تجربة في مجال التعليم في المراحل الابتدائية.
تصف السيدة «ناصيف» العالم بأنه غير عادل، وتقدّم مادة كتابها إلى أولئك الذين يستحقون العيش بالحد الأدنى للكرامة.
وتبدو قضية الغربة في أسفل إهتماماتها، فكل ما يعنيها هو الإنسان، ترغب في إنصافه، والحفاظ على كيانه وكرامته ومعنى حياته، فتنقله بين عمق تجربتها الإنسانية الشخصية، وما خطّه الأدباء والمفكرون، مستندة إلى وقائع تدفع بالحق الآدمي إلى أقصى فضاءاته.
الكاتبة نهاد ناصيف، صوت إغترابي يستند إلى تربة خصبة في العلاقات الاجتماعية، وتبدو الأمور أمامها واضحة المعالم، راغبة في صورة مثالية يكون فيها الإنسان هو المنتصر.
محمد حجازي