بيروت - لبنان

اخر الأخبار

17 تشرين الثاني 2020 12:02ص الحوار في جمهورية خارجة عن القانون

حجم الخط
عاد الموفد الرئاسي الفرنسي باتريك دوريل إلى دياره خالي الوفاض. زيارة تضاف إلى سابقاتها لكلّ من وزير الخارجية جان إيف لودريان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت وتكرر الإخفاق نفسه. لا زال الموفدون الفرنسيون مأخوذين بما قرأوه في محفوظات الـ«كي دورسيه» عن ذلك اللبناني الذي دخل مدارس إرسالياتهم وأتقن لغتهم، وسار معهم في رُكب المشروع الغربي للسيطرة على المنطقة، وقاتل معهم ضد العثمانيين، وقبِل إنتدابهم وطالبهم يوماً بفصله عن العالم العربي لخصوصيات طائفية وأقلويّة وحضارية. ذلك اللبناني الذي قرأتم عنه والمرتسم في مخيّلتكم وتأتون إلى لبنان للتفاوض معه لم يعد موجوداً، والمسيحيون الذين جهدوا فيما مضى لتثبيت خصوصية لبنان وتمايزه عن محيطه أصبحوا أتباعاً في مشاريع إقليمية لا تنتمي إلى تاريخهم. 

ربما تعلّم الفرنسيون الدرس الذي طالما غالبوا أنفسهم بتجاهله، فلبنان لم يعد ذلك الكيان الذي رسموه كقوة ظافرة بعد الحرب العالمية الأولى، وكابروا في ترميم ثغرات ما اقترفت أيديهم حتى خروجهم في أعقاب الحرب العالمية الأولى. رسّموا لنا جمهورية خارج قيّم جمهوريتهم، ومارسوا علينا حوكمة مستندة الى تعليق الدستور، ومنحوا الإمتيازات الطائفية والتمثيل الدبلوماسي في دول القرار والإستئثار الإقتصادي لفريق دون الآخر. ها نحن الآن قد أتقنا اللعبة، كلّ طائفة تستعيد بدورها النموذج الفرنسي بزمن قياسي وعلى طريقتها. لقد بنت كلّ من طوائفنا مدارسها الإرسالية والإكليروس الخاص بها وعلاقاتها بالخارج وإقتصادها الموازي ومرافقها وجيشها الأسود، وهي تعلّق الدستور وتُدخل إليه الأعراف، وتعتدي على المشاعات وتتحيّن الفرصة لتغيير معادلة السلطة عند إنقلاب المعطيات الكميّة في الديموغرافيا أو في الإقتصاد لمصلحتها بفعل قوة إقليمية. إنّه «الإنتحار اللبناني» الذي لا يبالي بكلّ ما تختزنه ذاكرة الموفدين الفرنسيين إلى لبنان ولا يأبه بحماية الوجود المسيحي والتعدّدية والإقتصاد الحر، وهذا ما يؤلم الفرنسيين ويتجاوز قدرتهم على الإستيعاب.

يخطئ الفرنسيون عندما يحاورون هذه المنظومة السياسية، فهم لا يدركون مدى الإختراق البنيوي الذي أحدثته التحوّلات الدولية منذ إنتهاء الثنائية القطبية، وتظهير الإسلام السياسي كعدو جديد وإنتاج نظرية الحروب بالواسطة (Proxy War). الإسلام السياسي كان الإبن الضال للمخابرات الغربية الذي أسقط مبتكريه كما أسقط ضحاياه في آتون صراعات لامتناهية. كما جنحت الحروب بالواسطة نحو إنتاج مستعمرين إقليميين يحاكون إمبراطوريات من خارج العصر، وقد أدى هذا العبث إلى إخضاع لبنان نتيجة لنوعين من الإحتلالات. الإحتلال السوري المباشرالذي ترجم حقده التاريخي على لبنان ودمّر ما استطاع من معالم الدولة الحديثة، وخرج بعد أن انتج طبقة من السياسيين الذين لا يستطيعون إلا الدوران في فلكه. والإحتلال الإيراني بالواسطة الذي لا زال ينهل من ولاية الفقيه ما يستنهض به فئة من اللبنانيين على الفئات الأخرى، ويستحضر من أدبيات دولته ما يبرر إسقاط الحدود والسيادة الوطنية لنصرة نظام مجرم خلف الحدود، ويعبث بهواجس وطموحات المسيحيين لإقامة التحالفات وإنتاج أوراق التفاهم التي أثبتت أنّها أشدّ من الفتنة. لقد أنتج الإحتلالان منظومة سياسية فاسدة تحتمي بسلاح إقليمي، صادرت مقومات لبنان وقيّمه وثقافته، أو في أحسن الأحوال مجموعة من الخائفين على امتيازاتهم وجاهزة لتقديم التنازلات على حساب لبنان.

هؤلاء هم من حاورهم الرئيس ماكرون ووزير خارجيته وموفدوه. إذا أردتم فعلاً أن تحاوروا اللبنانيين الحقيقيين إذهبوا إلى الجامعات حيث سجلّ طلاب لبنان بالأمس، عبر انتخابات ديمقراطية حقيقية إنتصاراً مدويّاً على مرشحي الطبقة السياسية الذين آثر معظمهم العزوف عن الترشح. إذهبوا إلى النقابات التي يخشى أركان السلطة إجراء الإنتخابات فيها، والتي قدّمت من بينها بالأمس نقابة المحامين موقفاً إدانة للسلطة والقضاء لتلكؤهما في التحقيق بجريمة إنفجار مرفأ بيروت، واقتصار الإستدعاءات على الموظفين دون الأمنيين والسياسيين. إذهبوا إلى منتديات وجبهات المجتمع المدني في كلّ المناطق اللبنانية الذين سألتموهم بالأمس، أنتم والأميركيون، عن مستوى تمثيلهم. إذهبوا إلى شمال لبنان حيث لا يجرؤ السياسيون الذين تحاورونهم على مواجهة المواطنين الذين انتخبوهم بالأمس، أو إلى البقاع حيث لا أثر للدولة لا في الأمن ولا في الإنماء، وحيث لم يُترك للمواطنين الذين يواجهون تبِعات إنغماس حزب الله في الحرب في سوريا، سوى الخيار بين الفقر أو تجارة الممنوعات أو الإلتحاق بحروب حزب الله الإقليمية. 

لقد أخطأتم في العنوان عندما اعتبرتم أنّ الحوار ممكن مع سالبي المال العام وسالبي السلطة، وتجاهلتم كلّ الدروس المستقاة من تجربة هذه المنظومة على امتداد عقدين من الزمن. أقفل محاوروكم كلّ الأبواب، وهم يضعون البلاد أمام خيارات مصيرية وعالية المخاطر، ويدفع اللبنانيون اليوم أثمان ما أنتجته نظريات الإسلام السياسي والحروب بالواسطة. من تحاورون ليس لديهم ما يخسرونه، لقد أُدرج منهم الكثير على لوائح العقوبات الأميركية وينتظر الباقي منهم دوره ولم يرِف لهم جفن، فهل يستقيم الحوار مع جمهورية يحكمها مجموعة من الخارجين عن القانون !!.