بيروت - لبنان

اخر الأخبار

26 آب 2020 12:02ص أزمة حكم وليست أزمة حكومة

حجم الخط
يقود الواقع السياسي والاقتصادي والأمني والتحليل العقلاني لأسباب الأزمات المتراكمة التي يواجهها لبنان منذ استقالة الرئيس سعد الحريري، والتي شكلت اعلاناً لسقوط التسوية التي حملت العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية إلى ان البلاد ذاهبة إلى انقسام خطير، يتعدى في مفاعيله حدود أزمات تشكيل الحكومات، التي ادمن المجتمع السياسي اللبناني على افتعالها وممارستها كوسيلة لتقاسم الحصص والمغانم.

تتعدّى الأزمة الراهنة التي يواجهها عهد الرئيس عون مسألة تشكيل حكومة بديلة للحكومة المستقيلة، حيث يؤشر الوضع السياسي الراهن إلى مقاطعة أحزاب وقوى سياسية أساسية للعهد، دفع ببعضها للمطالبة باستقالة الرئيس، بينما ذهب البعض الآخر إلى الاستقالة من المجلس النيابي، وذلك تعبيراً عن سخطهم وتشاؤمهم من الأداء السياسي وسوء القيادة التي مارسها العهد خلال أربع سنوات من حكمه.

لعب التيار الوطني الحر خلال السنوات الأربع دور الحزب الحاكم، حيث طالب بالحصول على حصة الأسد، والثلث المعطل في كل الحكومات، كما بذل جهداً مكثفاً للحصول على حصة راجحة في كل التعيينات والتشكيلات التي جرت داخل مختلف الوزارات والإدارات، كما وقف حجر عثرة في طريق كل التشكيلات والمناقلات التي لم تحقق له كامل مصالحه، وكان أبرزها تعطيل التشكيلات القضائية. ولا يمكن في هذا السياق التغاضي عن السلوكيات الفوقية الفاسدة التي اعتمدها وزراء التيار في مختلف الوزارات التي تسلموها، وخصوصاً في وزارة الطاقة والمياه، حيث بلغ الفساد أوجه، وهذا ما تدل عليه أرقام الهدر والفساد والتي تقدر بما يزيد عن 42 مليار دولار، أي ما يقارب نصف الدين العام.

يضاف إلى كل ذلك التصرفات الفوقية والعبثية التي طبعت سلوكية الوزير جبران باسيل داخل مجلس الوزراء، والتي عطلت معظم الآليات لإقرار المشاريع الضرورية والملحة سواء لجهة التجهيز وبناء المشاريع الأساسية الكفيلة بضبط الانفاق أو النهوض الاقتصادي أو الإصلاح المالي.

وكان الضرر السياسي الأبرز الذي تحمله العهد نتيجة السلوكيات «الرعناء» التي اعتمدها الوزير باسيل جرّاء سعيه الملح لتقديم نفسه كمرشح أساسي لرئاسة الجمهورية منذ بداية السنة الأولى من العهد، ومحاولاته الحثيثة لقطع الطريق على أي نشاط سياسي للمرشحين أو الطامحين الآخرين للوصول إلى موقع الرئاسة الأولى. ولم تقتصر اساءاته للعهد على الداخل اللبناني، بل تعدت ذلك إلى الدور الدبلوماسي الذي لعبه كوزير للخارجية، حيث تعارضت مواقفه الدبلوماسية مع الإجماع العربي أو مع مصالح لبنان الحيوية مع الدول الخليجية، ومع الدول الصديقة الأخرى.

وشكل تحالف الرئيس عون مع حزب الله، وتشابك المصالح السياسية بين الحزب والتيار معضلة سياسية معقدة، لم يستطع العهد تجاوزها داخلياً وعربياً ودولياً. وتفاقمت نتائج هذا التحالف وانعكست على أداء الدولة العام، حيث باتت السلطة أسيرة لمشيئة ومصالح الحزب داخلياً واقليمياً، وقد نتج عن ذلك فرض حالة من المقاطعة والحصار من قبل الدول العربية والغربية علي لبنان. ولم تغب حالة العزلة شبه الكاملة المفروضة على لبنان جرّاء سيطرة الدويلة على الدولة، وهذا ما دفع البطريرك مار بشارة بطرس الراعي إلى دق ناقوس الخطر على الصيغة والكيان، من خلال مطالبة الرئيس عون بفك الحصار عن الشرعية والقرار الوطني، بالإضافة إلى اعتماد الحياد الناشط والمعترف به دولياً.

قاطعت العهد معظم الأحزاب والقوى السياسية الرئيسية وأبرزها تيّار المستقبل والقوات اللبنانية واللقاء الديمقراطي والكتائب وقيادة المردة، ولم يبق له من حليف فعلي سوى حزب الله وبعض الملتصقين عن منفعة سياسية بمحور الممانعة. وذهبت معظم القوى المقاطعة وخصوصاً تيّار المستقبل إلى اتهام الرئيس بأنه يعمل على مخالفة الدستور والخروج عن كل النصوص والأعراف التي اقرها الطائف، وذلك من خلال خلق اعراف جديدة ومن خلال التوسع في قراءته للنص الدستوري أو من خلال العمل على استعادة صلاحيات بالممارسة، خارج مبادئ التوازنات الجديدة التي كرسها دستور الطائف.

أدى هذا السلوك المخالف لمواد الدستور ولروح الطائف إلى نفور هذه القوى السياسية من المشاركة في حكومة العهد الأخيرة برئاسة حسان دياب، مما فرض على العهد خيار الهروب إلى الامام في تسمية رئيس للحكومة، وفي تشكيلها حصراً من حزب الله وحلفائه، بالإضافة إلى التيار الوطني الحر، مع قبول العهد بها وبدعمها بالرغم من تسميتها بحكومة حزب الله.

عربياً ودولياً لم ينجح العهد في الحصول على ثقة هذه الدول الشقيقة والصديقة التي شكلت سنداً سياسياً ورافعة مالية واقتصادية للبنان خلال العهود الماضية، وذلك انطلاقا من مواقفها من حزب الله، واعتمادها لمطلب فرض عقوبات قاسية ضده، على خلفية تبعيته لإيران وتدخلاته العسكرية في الصراعات الإقليمية، علاوة على اتهامه دولياً بالارهاب، وفرض عقوبات قاسية ضده.

يشكّل التصعيد الحاصل في خطاب البطريرك الراعي في مواجهة العهد وتجاه سلاح حزب الله، حيث يدعو إلى «دهم كل مخابئ السلاح والمتفجرات المنتشرة من غير وجه حق بين الاحياء السكنية»، دعوة جديدة ملحة للرئيس عون للاتعاظ من كارثة مرفأ بيروت، وبالتالي المبادرة إلى دهم مخازن السلاح والمتفجرات المنتشرة في مختلف البلدات والمدن والمناطق، والتي تحوّلت وفق توصيف الراعي إلى «حقول متفجرات لا نعلم متى تنفجر أو من سيفجرها».

في رأينا لن تقتصر متاعب العهد وحزب الله على مواقف البطريرك الداعية لتحييد لبنان، أو التخلص من مخازن الحزب، بل سيواجه العهد قريباً الطائفة السنية وذلك على خلفية مخالفته للأصول والأعراف في اجراء الاستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيس حكومة، ومحاولاته المكشوفة لتشكيل الحكومة قبل تكليف رئيس لها، وهو يضع بذلك العربة امام حصان التكليف، فالرئيس سيواجه موقفاً سنياً معارضاً لممارساته الدستورية، ولن يقتصر الرفض والمعارضة علي تيّار المستقبل، بل سيشمل مختلف التيارات السنية الدينية والسياسية لأهل السنة.

من هنا فإن الأزمة السياسية التي يواجهها العهد لم تعد أزمة حكومة يشكلها وفقا لمصالحه واهوائه ومصالح واهواء حزب الله وصهره جبران باسيل بل هي أزمة حكم، حيث تُشير مختلف التطورات والمواقف إلى اشتداد أزمة المقاطعة والعزلة التي ترفعها القوى السياسية الأساسية داخلياً في وجه العهد، بالإضافة إلى استمرار حالة الحصار والمقاطعة المفروضة عليه عربياً ودولياً.

السؤال المطروح الآن: كيف يمكن للرئيس عون وحليفه حزب الله مواجهة هذه القطيعة المتنامية ضدهما داخلياً وعربياً ودولياً؟

يبدو بأن حزب الله مقيد الحركة من خلال ارتباطاته بالمشروع الإيراني الإقليمي، وهو متمسك بالرئيس عون كحليف يؤمن له الغطاء الشرعي في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية. من هنا فإنه لا يبدو بأن الرئيس عون يريد المغامرة بالتخلي عن هذا الحليف القوي، والذي يملك إلى جانب القاعدة الشعبية المتماسكة السلاح الجاهز للاستعمال عندما تدعو الحاجة.

في النهاية، يخشى ان يؤدي ارتفاع منسوب الانقسام الداخلي والضغط الخارجي إلى مواجهة مجموعة من الخيارات المستحيلة، والتي يمكن ان تدفع باتجاه تكرار عملية 7 أيّار جديدة أو باتجاه التهديد بالانزلاق نحو فتنة داخلية، أو بركوب المغامرة نحو حرب جديدة مدمرة مع إسرائيل.

من المؤكد بأن حزب الله لا يريد الحرب مع إسرائيل، وذلك انطلاقاً من ادراكه لكلفتها الباهظة على بيئته الجنوبية، وهذا ما يشجعه على اعتماد أحد الخيارين الآخرين.