على قدر ما هو واضح وقريب طريق الإنقاذ الاقتصادي للوطن الصغير، الا ان الوصول اليه وسلوكه بثبات هو أمر بالغ الصعوبة والتعقيد... حيث تتلاعب المواقف السياسية يميناً ويساراً باقتصاد لبنان الهش، فينخفض تصنيفه من قبل الوكالات العالمية التي توقعت له انكماشاً إضافياً بسبب استمرار الثورة وعجز السلطة عن ايجاد المخارج، فيما ترتفع السندات السيادية المقومة بالدولار بعد ان بحث الرئيس الحريري مع صندوق النقد والبنك الدولي سبل الحصول على مساعدة فنية للخروج من الازمة الخانقة.
وهكذا دواليك، هبّة باردة وهبّة ساخنة حسب الكباش الإقليمي والذي تحول الى سياسة عض أصابع داخلياً، الا ان الثابت هو تأكيد المجتمع الدولي مرة جديدة حرصه على لبنان وحماية ما تبقى من اقتصاد واستقرار، في حين تستمر السلطة في تعنتها وتجاهلها لواقع الأرض الثائر والرافض لكل الحلول الرمادية التي لطالما اعتمدتها لإسكات الشارع ولتضليل المجتمع الدولي في دهاليز فسادها وصفقاتها!
ليس جديداً مطالبة الدول الداعمة اقتصادياً للبنان بحكومة تكنوقراط قادرة على تنفيذ إصلاح حقيقي في بنية الدولة المهترئة والمتآكلة بداء المحاصصة المستشري، وهو ليس سرّاً ولا إملاءات خارجية ربط الدعم المالي بالاصلاح الفعلي وتحرير خزينة الدولة من وصاية الأحزاب وهيمنتها على وارداتها بشتى الطرق. الا ان تعامي الطبقة السياسية عن هذا القرار الدولي الحاسم، وصمّها لاذانها امام مطالبة الشارع لإحداث التغيير الحقيقي تمهيداً للخروج من اقسى الأزمات الاقتصادية التي يشهدها لبنان في تاريخه الحديث، لا بل إمعان الافرقاء بفرض شروطهم للخروج من هذه الازمة بثوب المنتصر، في حين يترنح الوضع المالي ويتهالك معه الشعب وتتعالى دعوات الدول الصديقة للإسراع بتشكيل حكومة إنقاذ قبل فوات الأوان، ولا من يسمع او يتجاوب... فأسلوب التعطيل الذي انتهجه التيار الوطني في اكثر من مناسبة تارةً لتوزير الوزير باسيل وتارةً اخرى للحصول على حقيبة الطاقة تحديداً ليس بجديد، الا ان المستجد هو الازمة الاقتصادية غير المسبوقة وإطباقها على الوطن شعباً ودولةً، باستثناء طبقة سياسية غير معنية بهموم شارعها، تفصلها عنه جيوب ممتلئة من المال العام ومصالح خاصة تتقدم على أية حسابات اخرى! ولن تنتفي التهم عنه اذا ما قرر البقاء خارج الحكومة والالتحاق بصفوف المعارضة، كما ان تولي الرئيس الحريري لحكومة الإنقاذ المقبلة، اذا ما تمت تسميته، لن يعفيه من تهم الفساد التي تحاصر كل الطبقة السياسية دون استثناء، اما بشكل مباشر او عبر ازلام ومنتفعين استغلوا غطاء الأحزاب لهم فنهبوا المال العام وحولوا الدولة الى منكوبة تستجدي المساعدات العينية لشعبٍ بات لاجئاً في وطنه!
والامر عينه ينسحب على سائر الأحزاب والتيارات التي نادت بمكافحة الفساد ولكنها لم تصل الى التطبيق حيث الأولوية كانت لحماية الحلفاء والمصالح وحولت الثورة الى مؤامرة وجودية لها، في حين كان من السهل دعمها وتبني مطالبها المحقة وصولا لنهاية النفق المظلم الذي علق الجميع به!
من هنا، وبعد كل هذه التعقيدات والإمعان بالكيدية بين الافرقاء والذي بات يدفع بالبلد نحو الانهيار التام بسرعة قصوى، تتفاقم الأخطار تجاه الثورة ونية السلطة لجرّها نحو مواجهات مع الشارع الآخر حيناً ومع القوى الأمنية حيناً آخر، لتحميلها وزر الفوضى الأمنية بعدما اتهمتها بتسريع الانهيار المالي والاجتماعي... وهذا ما يفسر العنف المفرط في التعاطي مع الثوار لجرهم الى مكان آخر واجهاض الحراك بعدما صمد كل هذا الوقت محافظاً على سلميته ومتجاوزاً الترهيب الذي مارسته السلطة وأحزابها، مترفعاً عن منطق الطوائف وصامداً في وجه الطبقة السياسية كلها دون الوقوع في فخ الاستثناءات، في وقت لا بد من خطوات على الأرض لتحصين الساحات وتطهيرها من المندسين ورسم خارطة طريق واضحة للضغط الفاعل على السلطة وصولا لوضع نهاية للمماطلة المتعمدة للخروج من هذه الدوامة القاتلة!