بيروت - لبنان

اخر الأخبار

13 أيار 2020 08:01ص استراتيجية الدولة في المفاوضات مع صندوق النقد

حجم الخط
نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» عشية سفر وفد صندوق النقد الدولي إلى بيروت مقالاً بعنوان «انفجار الازمة الاقتصادية» في لبنان يُهدّد عقوداً في الإزدهار، وأشارت الصحيفة إلى ان اللبنانيين لطالما حاولوا الاستمتاع بالحياة على رغم ما شهده بلدهم من حروب وجولات عنف، وبالرغم من عدم وجود كهرباء أو مياه صالحة للشرب. وأضافت ان «هذا النظـام قد انهار خلال الأشهر الأخيرة، مما أدى إلى انهيار اقتصادي، يتفاقم مع التدابير المتخذة من الحكومة لمكافحة فيروس «كورونا». وانتهى المقال بتذكير السلطة اللبنانية بتحذير البنك الدولي من ارتفاع نسبة الفقراء إلى خمسين في المائة، وذلك قبل انهيار سعر الليرة وارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية أو تفشي جائحة «كورونا»، وبما يؤشر إلى تدهور الأمور نحو الأسوأ.

استقالة حكومة سعد الحريري تحت ضغط الانتفاضة الشعبية المطالبة بتغيير الطبقة السياسية وباصلاحات جذرية للدولة وللمالية العامة وبمحاربة آفة الفساد، وتشكلت حكومة حسان دياب تحت شعار حكومة اختصاصيين، قادرة على التغيير والاصلاح واستعادة المال المنهوب، والدعوة لانتخابات مبكرة لتجديد الطبقة السياسية، لكن يبدو بأن الرئيس دياب قد فشل في الحصول على تفويض سياسي يُمكّنه من تشكيل حكومة من الاختصاصيين المستقلين، فأجبر على العودة إلى الوراء عن تشكيل حكومة محاصصة بين العهد وقوى 8 آذار، وتحت مظلة حزب الله.

لن أناقش في شكل الحكومة وفي مواصفات وزرائها، أو مستوى تبعية قراراتهم للاحزاب التي سمتهم لدخول الحكومة، ولكنني لا أخفي خيبة أملي من أداء هذه الحكومة، حيث أثبتت انها عاجزة عن معالجة أي وجه من وجوه الأزمة التي وعدت بحلها. وكان اللافت عجزها عن تفعيل دور حاكمية مصرف لبنان ودفعه لضبط سعر النقد الوطني، وضبط أسعار السلع الاستهلاكية بالإضافة إلى وقف التهريب للمازوت والطحين عبر المعابر الحدودية التي يسيطر عليها حزب الله في البقاعين الشرقي والشمالي، هذا في ظل تفاقم ظاهرة التلاعب بسعر الدولار، وشرائه وشحنه باتجاه دمشق وطهران.

أمام العجز الكبير الذي أظهرته السلطات السياسية والمالية في ضبط ارتفاع أسعار الدولار، وجنون الأسعار للمواد الأساسية، فقد أحيلت مهمة الضبط إلى الأجهزة الأمنية والسلطات القضائية، والتي ستكون اجراءاتها معرضة للفشل في ظل ترافق عملها مع فتح بعض ملفات الفساد والتي تنذر بتفجر خلافات سياسية، قد تؤدي إلى شل عمل الحكومة، مع امكانية تفجرها من الداخل، إذا ما استمر التصعيد السياسي الذي ترافق مع التحقيقات الأمنية والقضائية حول صفقات «الفيول المغشوش» المفقودة والمتهم بها وزراء ومسؤولو وزارة الطاقة.

يأتي هذا التفجير السياسي مع وصول وفد صندوق النقد الدولي إلى بيروت لمناقشة حكومة حسان دياب في موضوع الخطة الإصلاحية التي وضعتها من أجل التصحيح المالي وإعادة بناء الاقتصاد اللبناني، وتتطلب دقة وحراجة المفاوضات مع الصندوق إلى وجود سلطة متكاملة البنية وموحدة الرؤية والقرار، ونعني هنا بالسلطة بكل مكوناتها من الحكومة، إلى المجلس النيابي القادر على التشريع إلى المجلس الدستوري القادر على نقض القوانين التي تضر بمصالح الشعب أو تتعارض مع البرنامج الاصلاحي، إلى سلطة قضائية، مستقلة قادرة على محاكمة الفاسدين أو العابثين بمقدرات الدولة والبلاد من سياسيين أو رجال أعمال أو موظفين.

ان المطلوب في هذه المرحلة المهمة والدقيقة، والتي تدخل فيها الحكومة في المفاوضات نبذ الخلافات وتأجيل الصراعات بين مختلف القوى السياسية سواء في الموالاة أو المعارضة،ودعم الوفد الحكومي والمالي المشارك في المفاوضات، وذلك في محاولة لاقناع الوفد الدولي بوجود سلطة تملك الرؤية والقرار للسير قدماً في اعتماد خطة إصلاحية، والالتزام بتنفيذ كل بنودها وبرامجها.

يقتضي على الحكومة وخصوصاً الوفد الذي شكلته للمشاركة في المفاوضات إظهار النية والإرادة والعزم على مواجهة الأزمة المالية - الاقتصادية بصورة مباشرة، مع الحرص على تخفيف المخاطر التي يواجهها لبنان مالياً واقتصادياً واجتماعياً، وأن تتوجه جميع الجهود للعودة الى النمو الاقتصادي والقدرة على المنافسة، مع التزام سياسة ضريبية حكيمة ومتلازمة مع السهر على خفض كل المصاريف غير المجدية، مع الحرص على تجميد الدين العام عند مستوى لا يزيد عن 90 في المائة من الناتج العام المحلي.

ان المطلوب من الوفد اللبناني المفاوض ان يعمل على أساس وجود استراتيجية شاملة، تعتمد عدداً من السياسات والبرامج، تهدف إلى إعادة هيكلة مالية واقتصادية تؤمن فتح باب النمو مع اعتماد سياسة ضريبية واضحة المعالم، تؤمن الحماية اللازمة للاستقرار المالي، ولمنع حصول أي موانع أو تعثر للقروض لتمويل المشاريع والقطاعات الانتاجية، ولا بد من التنبه إلى عدم القبول بأية بنود ضريبية، قد تطاول الطبقات الفقيرة.

لا بدّ أن يُحدّد الوفد المفاوض حجم التسليف الذي يسعى إليه لبنان من الصندوق ومن المصادر التمويلية الأخرى (مثل مؤتمر سيدر)، بالإضافة إلى تمويل مشاريع حيوية من صناديق أو مؤسسات عربية ودولية أخرى.

لا بدّ ان يبلور الوفد المفاوض خطة لسياسة ضريبية تؤمن التوازن ما بين استعادة الثقة والمصداقية بالدولة من خلال التأكيد على تجميد الدين العام، ووقف العجز في الموازنة خلال فترة تمتد من سنتين إلى ثلاث سنوات، دون أن ينعكس ذلك سلباً على خطة النمو الاقتصادي.

يجب أن تتضمن استراتيجية الوفد المفاوض خطة لإعادة هيكلة المصارف ومصرف لبنان، وتدعيم القطاع المصرفي من خلال دفعه للسير قدماً في إعادة بناء رساميله، مع بذل كل الجهود الممكنة لاستعادة ثقة المودعين والمستثمرين من خلال إثبات قدرته على تأمين السيولة النقدية المطلوبة.

من المفترض أن يقدم لبنان مع خطة  التصحيح المالي المطلوب خطة لإعادة تنظيم القطاعات الانتاجية مع التركيز على إنتاج السلع الصالحة للمنافسة وللتصدير من أجل تخفيف الفوارق التي اعتادها في ميزان المدفوعات. 

ولا بد أيضاً أن تتضمن الاستراتيجية الشاملة خطة لإعدة تنظيم قطاع العمل وتخفيض كلفة الإنتاج، وذلك من أجل تأمين فرص العمل للشباب ومن أجل زيادة الانتاجية.

لا يُمكن للبنان ان ينجح في إقناع صندوق النقد الدولي ومصادر التمويل الأخرى بتقديم التسهيلات المالية اللازمة والاستثمارات التي هو بأمس الحاجة إليها، إذا لم يحقق وحدة الموقف الوطني من البرنامج الاصلاحي العام. من هنا بات على العهد وعلى الأحزاب المشاركة في الحكومة القيام بخطوات حثيثة وواعية لاقناع أحزاب المعارضة بدعم برنامج الحكومة الاصلاحي المعدل.

لا يُمكن لحزب الله ومعه التيار الوطني الحر الاستمرار في نفس النهج السياسي إذا كانا يريدان فعلاً للحكومة أن تنجح وللبنان أن ينهض من أزمته، ويفترض هذا الأمر منهما اجراء عملية تقييم ذاتي لمصالحهما ومواقفهما، للانطلاق في سلوكية تصالحية مع الأحزاب والقوى الأخرى.

وعلى الجميع إدراك أهمية تنسيق الاستراتيجية مع رموز الثورة ومع جمعية المصارف والنقابات والاتحاد العمالي العام، ومع مؤسسات الدراسات والمجموعات النخبوية في المجتمع اللبناني، وكسب تأييدها لاستراتيجية الحكومة الإصلاحية.