بيروت - لبنان

اخر الأخبار

22 تموز 2020 12:02ص التحديات الأمنية لمسيرة الحياد

حجم الخط
يقود المنطق السياسي والتحليل العقلاني إلى الاستنتاج بأن الأزمة الراهنة التي يواجهها لبنان لها ثلاثة أبعاد: داخلي واقليمي دولي، لكن قبل الشروع في تحليل هذه الأبعاد لا بدّ من الاعتراف بأن نتائج حرب تموز 2006، وصدور القرار الدولي 1701، وتولي القوات الدولية والجيش اللبناني مهمة تحقيق الأمن والاستقرار في الجنوب وعلى طول الحدود مع إسرائيل قد سمحت لحزب الله بنقل نشاطه الكامل إلى الداخل، والتفرغ لمواجهة النفوذ الأميركي وحلفائه في حركة 14 آذار، وتحقيق انتصار شامل عليها أدى إلى تفككها واضمحلالها. وتمثل هذا الانتصار الشامل بانتخاب العماد ميشال عون كرئيس للجمهورية، وبخوض انتخابات نيابية في ظل قانون نسبي مشوّه، فتح الباب للحزب وحليفيه في حركة أمل والتيار الوطني الحر للحصول على أكثرية نيابية واضحة سهلت امامه الطريق لتشكيل حكومة حسان دياب، وبالتالي إخضاع الشرعية والقرار الوطني لإملاءات وتوجهات الحزب السياسية والاقتصادية والمالية.

في الواقع، لم يكتفِ حزب الله بفرضه على جميع الحكومات اللبنانية منذ عام 2005 إلى اليوم تبني ثلاثية «الشعب والجيش والمقاومة» بل ذهب ، وعلى مراحل، إلى فرض حصار كامل على الشرعية اللبنانية وعلى قرارها السيادي، تكرّس هذا الواقع من خلال استباحة الحدود السورية، وفتحها أمام تشكيلاته العسكرية للتدخل بقوة في الحرب السورية، والتدخل كقوة مساندة للتدخلات الإيرانية في العراق واليمن والبحرين وغيرها من الدول العربية.

أدى تفلّت حزب الله السياسي والعسكري من كل الضوابط والالتزامات التي تفترضها المصالح اللبنانية مع الدول العربية إلى ردود فعل عقابية ضد لبنان من خلال منع مواطنيها من السفر إلى لبنان، وبوقف كل المساعدات المالية والاستثمارات التي دأبت على تقديمها للبنان في العقود السابقة.

ترافقت جهود حزب الله على تحقيق أهدافه الاستراتيجية في الداخل وفي عدد من الدول العربية، وخصوصاً في سوريا، والتي يأتي في طليعتها لعب دور رأس الحربة في استراتيجية إيران لفرض هي هيمنتها على الدول العربية ومواجهة النفوذ الاميركي في المنطقة، مع مراعاة ودعم مصالح حلفائه اللبنانيين، وعلى رأسهم التيار الوطني الحر، وحماية مصالحهم وفسادهم، والذي أدى إلى تراكم الدين العام نتيجة استباحتهم المال العام وخصوصاً من خلال العجز المتراكم في الكهرباء، ونهب الموارد المالية للمؤسسات العامة الرئيسية.

بعد انفراط عقد تحالف 14 آذار واضمحلاله، وبعد خسارته للأكثرية النيابية بعد الانتخابات الأخيرة ، هيمن حزب الله على القرار الوطني بالكامل، وسهّل له ذلك استسلام حليفه في سدة الحكم لمشيئته، سواء داخل السلطة أو عبر الحدود، دون النظر والتبصّر بما يُمكن أن يرتب ذلك من مسؤوليات ونتائج على لبنان، وخصوصاً على أوضاعه الاقتصادية والمالية، في ظل نظام العقوبات الأميركي المفروض على إيران وعلى حزب الله بعد تصنيفه كمنظمة إرهابية. وشكل قانون «قيصر» لمعاقبة النظام السوري وكل من يتعاون معه من داخل وخارج سوريا ثقلاً اضافياً وضغوطاً قاسية تضاف إلى ما يُعاني منه الشعب اللبناني في استقراره ولقمة عيشه جرّاء الأزمة الاقتصادية والمالية والإرتفاع الكبير في أسعار السلع على اختلافها، جرّاء تدهور سعر صرف الليرة مقابل الدولار.

ظهَّرت الازمة الراهنة، والتي تسببت بانتفاضة شعبية متواصلة منذ 17 تشرين أول عام 2019، مدى العزلة الاقتصادية والمالية والسياسية المفروضة على لبنان دولياً وعربياً، وكان من أبرز مظاهر هذه العزلة المقاطعة الكاملة عربياً ودولياً للعهد ولحكومة حسان دياب، والذي لم تفتح أمامه أية نافذة للتواصل وطلب المساعدة من أصدقاء لبنان من العرب ومن الدول القريبة.

ترافقت كل هذه الضغوط الداخلية والخارجية مع سوء أداء حكومة دياب الموصوفة بأنها حكومة حزب الله، والتي فشلت في القيام بأي إجراء إصلاحي مالي أو اقتصادي، أو بنيوي من أجل الحدّ من الانزلاق المتسارع نحو القعر. لقد فشلت الحكومة التي تشكّلت من تكنوقراط يفترض أنهم قادرون على اجتراح الحلول واستعادة ثقة الشعب بحكومته وبالدولة، ولكن تبين انها حكومة عاجزة عن بناء أية رؤية إصلاحية بالرغم من كثرة المستشارين والشركات المتخصصة التي استعانت الحكومة بخدمتها، وأن الأدلة ظاهرة للعيان على مدى عجز هذه الحكومة، وفي طليعتها فشلها في العملية التفاوضية مع صندوق النقد الدولي. وقد صرّح رئيسها إبان زيارته للبطريرك الراعي في الديمان بأنه لن يستقيل ـــ تحت عباءة الأمين العام لحزب الله ـــ والذي يريد استمراريتها كآخر درع حامية له وللمشروع الإيراني في لبنان ليواجه بشرعيتها الدستورية الضغوط الأميركية المتنامية، بعد تسرب تقارير من واشنطن عن اقتراب موعد إصدار لائحة عقوبات جديدة تشمل الحزب وبعض القيادات المتحالفة معه في السلطة.

لبنان يختنق، والسبب ليس جائحة «كوفيد - 19»، ولكن نتيجة الحصار السياسي والاقتصادي والمالي المفروض عليه بسبب هيمنة حزب الله على الشرعية وعلى القرار الوطني السيادي، وكان لبنان قد فقد الأمل في ايجاد مخارج لأزمته الراهنة في ظل حالة الفساد والشلل والحصار المفروضة عليه، وجاءت الصرخة التي أطلقها البطريرك الراعي لتفتح نافذة أمل في الحائط المسدود، حيث دعت إلى فك الحصار عن الشرعية وعلى السيادة اللبنانية.

من المتوقع ان يتنامى التأييد الوطني والشعبي لدعوة البطريرك الراعي، فاللبنانيون تواقون لاستعادة موقعهم التاريخي، والذي يبدأ بالعودة إلى الجذور السياسية والوعي الوطني الذي تحلى به آباء الاستقلال.

لا بدّ أن يعود اللبنانيون إلى أصالتهم والقائمة على التعاون والاعتدال داخلياً وعربياً ودولياً، وبالتالي العمل على تحييد لبنان عن سياسة المحاور، والصراع القائم بين إيران والولايات المتحدة، مع الحرص على لعب لبان دوره البنّاء في الحفاظ وصيانة التضامن العربي.

كان من اللافت جداً التحرك الإيجابي الداعم لموقف البطريرك الراعي ودعوته لفك الحصار عن الشرعية واستعادة السيادة، من المتوقع أن تتوسع وتتسارع حركة التأييد هذه ، بعدما أكدت مواقف البطريرك المعلنة في عظاته الكنسية وفي خطابه العام بأنه جاء من تحويل هذا الموقف الى مشروع واسع وجامع من أجل خلاص لبنان، وحل أزمته السياسية والاقتصادية والمالية، وستلقى هذه المواقف ترحيباً وتأييداً واسعاً من الدول الغربية ومن الدول العربية، ستصل أصداؤها، دون شك، إلى كواليس الأمم المتحدة ومجلسي الأمن، والذي سيرى فيها مناسبة لاستعادة واحياء إعلان بعبدا كخطوة أولى على طريق التعامل بجدية مع دعوة البطريرك لتحييد لبنان وفك أسر لبنان من الارتهان للمشروع الإيراني الساعي إلى الهيمنة على أربع دول عربية، من ضمنها لبنان.

في النهاية تأتي دعوة الراعي لاستعادة الدولة وظائفها الأساسية من أيادي حزب الله ومن الهيمنة الإيرانية، وبالتالي تأمين الظروف الملائمة لتشكيل حكومة جديدة فاعلة ومستقلة، وتملك الرؤية والإرادة للعمل على خلاص لبنان من خلال اخراجه من دائرة الصراعات التي تشهدها المنطقة، ولكن لا بدّ من التنبه والحذر من أنه لن يكون من السهل اقناع حزب الله وإيران بتغيير أهدافهما واستراتيجيتهما، بالسهولة التي يتصورها البعض من المتوقع أن تؤدي دعوة الراعي لتحييد لبنان إلى استعادة تلك الأجواء المتشجنة والعصيبة التي عرفها لبنان بعد إقرار القرار الدولي 1559، وبما يطرح التساؤل حول إمكانية وقوع حادث أمني كبير، يخلط كل الأوراق، ربما يتطلب اجراء مراجعة عامة، لمواقف أطراف لبنانية عديدة أيدت مطالب البطريرك الراعي، بتحييد لبنان واستعادة السيادة.

يقف اللبنانيون وبقيادة البطريرك الماروني مرّة جديدة على أبواب مرحلة وبمبادرة جديدة تهدف إلى ستعادة القرار الوطني من الدويلة إلى الدولة، وأن نجاح هذه المحاولة الجريئة سيتوقف على تضامنهم صمودهم في مواجهة تجربة أمنية بخطورة ما حدث في عام 2005، وما تبعها من ضغوط أدت إلى فرط واضمحلال حركة 14 آذار الاستقلالية.