بيروت - لبنان

اخر الأخبار

23 أيلول 2020 07:20ص التحديات المصيرية التي يواجهها لبنان

حجم الخط
اعتبر بعض الكتاب والمعلقين ان المعركة الدائرة هذه الأيام حول حقيبة وزارة المالية، ليست الأولى من نوعها، وبانها لن تكون الأخيرة، وبأنه قد سبق للمسرح السياسي اللبناني أن شهد في السنوات الماضية الكثير من مثيلاتها، بوجهيها السياسي والدستوري. ولكني أنظر إلى الأزمة الراهنة من منظار مختلف، نظراً لخطورتها على مستقبل البلاد أولاً، حيث انها تأتي في زمن يواجه فيه لبنان خطر السقوط المالي والاقتصادي، في ظل إفلاس الدولة ومعها النظام المصرفي مع كل ما يترتب على ذلك من افلاسات وانهيار لقيمة الليرة، وتدهور لمستويات المعيشة، ويتعدى منسوب الخطورة ثانياً، منظور الانهيار الاقتصادي والمالي، إلى تهديد النظام السياسي اللبناني الذي أرساه الطائف، والذي يقول بالمناصفة بين المسلمين والمسيحيين، من خلال فرض صيغة المثالثة، التي طالما هدّد بها حزب الله في الماضي، كما سانده فيها الرئيس نبيه برّي بحجة حصول الطائفة الشيعية على حصتها العادلة في المشاركة من خلال تأمين التوقيع الثالث على كل المراسيم والقرارات الأساسية.

لا يمكن مقارنة أزمة تشكيل الحكومة التي يواجهها الرئيس المكلف مصطفى أديب بالازمات السابقة التي واجهها رؤساء الحكومات في السابق، حيث استغرقت عملية التوافق على تشكيل الحكومات أشهراً عديدة، انتهت في جميع الحالات بحكومات ثلاثينية فضفاضة.. تمثل معظم الكتل النيابية، ويمتلك فيها حزب الله وحلفاؤه «بدعة» الثلث المعطّل، انطلاقاً من فرضه لتسوية الدوحة، والتي استندت على فائض قدراته العسكرية والأمنية، التي استعملها في عملية احتلال عسكري لبيروت، مع تهديد مباشر بإلغاء جميع خصومه السياسيين.

نجح حزب الله من خلال فائض قوة سلاحه «المعصوم» في تغيير قواعد اللعبة السياسية في لبنان، والتي كانت تراعي التوازنات القائمة بين الطوائف، وذلك بهدف الحفاظ على مبدأ العيش المشترك المكرّس في مقدمة الدستور، كما عمل على شل وسط العاصمة، من خلال احتلاله لفترة سنتين، هذا بالاضافة الى تعطيل عمل المؤسسات الرئيسية ومن ضمنها مجلس النواب، وبالتالي الحؤول دون انتخاب رئيس للجمهورية فترة سنتين ونصف، والتي انتهت برضوخ خصومه السياسيين لمشيئته، والقبول بانتخاب حليفه العماد ميشال عون.

بعد الخروج السوري من لبنان نتيجة الضغوط الشعبية والدولية التي جاءت رداً على اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بادر حزب الله وحلفاء سوريا في لبنان إلى عرض متدرج لاستعمال القوة، بدءاً من استكمال مخطط الاغتيالات السياسية، ليتبعه الحزب بالحرب مع اسرائيل وفي الداخل السوري، بالاضافة الى العمل الدؤوب على تعطيل المؤسسات وتحلل الدولة وحماية الفساد والتسبب بالانهيار المالي من خلال إسقاط كل عناصر نجاح لبنان: السياحية والمصرفية والصحية والثقافية والخدماتية. وذهب حزب الله إلى أبعد من ذلك، باستعداء الدول العربية الخليجية من خلال عمليات أمنية للتدخل في شؤونها الداخلية أو تهديد استقرارها الامني ومهاجمة قياداتها بصورة مباشرة، دعماً للمواقف الايرانية «المنددة» بسياسات هذه الأنظمة التي تتهمها بمحاباة الولايات المتحدة في عدائها السافر للجمهورية الإسلامية. نعم لقد شكل حزب الله رأس حربة في المواجهة المحتدمة بين الولايات المتحدة وإيران، وقد تسبب هذا الدور بأضرار كبيرة على الصعيدين المالي والمصرفي، أدى إلى اقفال مصرفين لبنانيين، والى فرض عقوبات قاسية على كيانات وأفراد على خلفية اتهامها بالتعاون أو التعامل مع حزب الله داخل لبنان أو خارجه.

إن الأخطر والأدهى في المشهد السياسي الراهن لا يتوقف عند تعطيل أو إسقاط المبادرة الفرنسية الساعية إلى تشكيل حكومة إصلاحية، تمهيداً لتدفق المساعدات والقروض المالية الدولية لإنقاذ الوضعين المالي والمصرفي، وإعادة اعمار ما هدّمه الانفجار الكبير في مرفأ بيروت، بل يتعدى ذلك إلى منازلة ثلاثية شيعية (الحزب وأمل والمجلس الشيعي) مع معظم القوى السياسية التي تمثل أكثرية اللبنانيين، ترتكب الثلاثية الشيعية خطأً استراتيجياً فبدل شراء الوقت بفتح الباب امام الشعب اللبناني لاستعادة انفاسه، فقد لجأت إلى التهديد بالخروج على الصيغة الراهنة المكرسة بدستور الطائف والدفع لفرض صيغة نظام جديد يكرّس مطلب المثالثة، الذي طالما تحدث عنه السيّد حسن نصر الله في خطاباته، من خلال دعواته لعقد مؤتمر تأسيسي. في الواقع نحن امام مرحلة جديدة تتعدّى كل المطالب الشيعية السابقة من الفيتو المذهبي والميثاقية المذهبية، مروراً بالثلث المعطل، ووصولاً إلى الأكثرية النيابية، وتشكيل حكومة اللون الواحد برئاسة حسان دياب.

نحن امام محاولة جدية، هندسها حزب الله من أجل امساكه بكل مفاتيح السلطة، وبما يمكنه من لعب دور أساسي في المواجهة الأميركية - الإيرانية سواء على مستوى لبنان أو على المستوى الإقليمي.

وكان اللافت ان الموت السريري لمبادرة ماكرون قد احرج الرئيس عون واخرجه عن كل الضوابط التي فرضها عليه اتفاق مار مخايل ليقول بصراحة بأن مطالب حزب الله مع شركائه من الشيعة بحقيبة وزارة المالية وبتسمية جميع الوزراء الشيعة أمر لا يقرّه الدستور، وبان الواقعية الدستورية والسياسية تجيز إعطاء حقائب سياسية لممثلين من طوائف الأقليات الصغرى. من المتوقع ان لا تغيّر تصريحات الرئيس عون في مسار الأزمة، والتي يرى فيها الثنائي الشيعي فرصة سانحة لتحقيق كسب استراتيجي، يحقق للطائفة الشيعية موقعاً راجحاً في توازنات السلطات وتوزيعها على الطوائف الأساسية.

سيؤدي هذا المكسب في حال النجاح في تحقيقه، إلى واقع سياسي جديد يتطلب تعديلاً دستورياً لصيغة الطائف، وبما يكرس للطائفة الشيعية شرعية الهيمنة على سيادة الدولة واقعياً ودستورياً.

في المحصلة يجد رئيس الجمهورية نفسه في ورطة كبيرة، مليئة بالاستحقاقات المتناقضة: فمن حرصه على إنقاذ عهده، إلى الحفاظ على الالتزام بقواعد التحالف مع حزب الله، إلى تشكيل حكومة إصلاحية مستقلة قادرة على القيام بالاصلاحات المطلوبة لفك العزلة الدولية والعربية عن لبنان تمهيداً لاطلاق عملية الانقاذ الاقتصادي والمالي، إلى تفادي كأس العقوبات الأميركية عن نفسه وعن صهره جبران باسيل. في مواجهة هذه الورطة لم يعد يكفي ان يوصف الرئيس عون الوضع ويوزع المسؤوليات ما بين الرئيس المكلف والثنائية الشيعية بل عليه الاقدام واتخاذ خطوات عملية: الأولى، دعوة الرئيس المكلف للتوافق معه على التشكيلة التي اعدها وإصدار مراسيم بالحكومة، تمهيداً لمواجهة مصيرها في جلسة الثقة في المجلس النيابي. الثانية، الدعوة لحوار وطني للبحث في ولادة نظام جديد، مختلف عن صيغة المثالثة، نظام حديث يحقق التوازنات الوطنية بدل التوازنات الطائفية والمذهبية.

لقد أضاع الرئيس عون ومعه التيار الوطني أربع سنوات من محاولات الهيمنة على الدولة تحت عنوان «الرئيس القوي» وذلك بحثاً عن استعادة صلاحيات الرئيس من خلال الممارسة. عله يُدرك الآن بأن الأمور قد انتهت به إلى ما هو أخطر من اتفاق الطائف، وبما يستدعي العمل على البحث جدياً عن صيغة جديدة متوازنة، مستبقاً بذلك نتائج الهندسات الدولية الجديدة الساعية إلى فرض خطوط تقسيم جديدة، تبدل الكيانات والتوازنات الإقليمية التي أرساها اتفاق سايكس - بيكو.