بيروت - لبنان

اخر الأخبار

24 تموز 2020 07:29ص الثقافات الوطنية في خطر؟

حجم الخط
الثقافة مهمة جدا في المجتمعات وتميزها عن المجتمعات الأخرى في تصرفاتها ومبادئها. في الحقيقة أهملها الاقتصاديون في البحوث والتدريس بالرغم من تأثيرها الكبير على الاقتصاد والنمو. تنتقل الثقافة عبر الأجيال لكن يجري تطعيمها بالاستيراد الطوعي للأفكار من المجتمعات الأخرى. أحيانا يكون الاستيراد مفيدا وأحيانا أخرى مضرا خاصة في التطرف وقمع الحريات والكلمة. لا يمكن فرض الثقافة اذ يجب أن يقتنع بها المواطن كي تدوم وتؤثر عليه. هنالك مجتمعات تستورد ثقافات شرقية وأخرى ترغب بالغربية وتعدلهما تبعا للعقائد والأديان والظروف.

ما هي الثقافة؟ هي مجموعة التقاليد والأعراف والعقائد والقيم والأفضليات المشتركة في المجتمع والمؤثرة على تصرفات الانسان والعلاقات بين الناس. الثقافة توجه الاستهلاك والاستثمار وطريقة العيش وكيفية بناء المؤسسات وطبيعة القوانين وغيرها. الثقافة تؤثر على طبيعة المؤسسات وعملها في المجتمع ولخدمته. هنالك مجتمعات تنجح في بناء مؤسسات عامة قوية وفاعلة وأخرى تفشل بها. المؤسسات تحمي الانسان العادي وتحافظ على حقوقه. من يرفض المؤسسات هو المستفيد من الفوضى والفساد، وهم ليسوا قلائل في العديد من المجتمعات خاصة في الدول النامية.

هنالك مجتمعات تبشر بالتعاون بين المواطنين وبالثقة بين المواطن والمسؤول وباحترام القوانين مما يسهل عمل المؤسسات والأسواق.  فيها يخف الفساد وتعطى الأهمية والتقدير للشفافية والنزاهة والانتاجية. فيها أيضا ينوه بالعاملين المنتجين وبالخلق والابداع في كل الميادين. ينوه بالجديين والنزيهين ويعتبرون منقذين للمجتمعات ومضرب مثل للأجيال المقبلة. فيها تحترم الطبيعة والنظافة البيئية وصحة الانسان ونوعية الحياة. هنالك أخرى تبشر بالعكس وبالتالي يصعب جدا ممارسة الحكم فيها بسبب الفساد والضبابية وسوء الاداء وغياب المحاسبة. لا تتقدم المجتمعات دفعة واحدة أو عبر خطوة واحدة ولو كانت كبيرة. التقدم يحصل عبر خطوات صغيرة متتالية تبنى على بعضها البعض وتحدث تقدما يعمر طويلا وينتقل عبر الأجيال. المجتمعات الجامدة تتأخر مع الوقت ويسبقها الآخرون. التطور يحتاج أيضا الى قيادات واعية غير متوافرة في كل الدول.

لا يمكن تعلم الاقتصاد من دون فهم أو من دون التعمق في العلوم الأخرى المرتبطة كعلوم النفس والسياسة والاجتماع والقانون والأعصاب وغيرها. تنبع الثقافة من التاريخ والممارسات والتقاليد، كما يستورد بعضها بسهولة مع تطور التكنولوجيا والاتصالات بكافة أشكالها. لا نستطيع تقييم تأثير الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية على عاداتنا وفكرنا واستهلاكنا في كل الظروف وخاصة اليوم مع الحجر «الكوروني». تأثير السينما والتلفزيون كبير جدا على تفكيرنا ومعلوماتنا وطريقة تحليلنا لكافة التحديات التي تواجهنا. تفوّق الأميركيين في هذه التقنيات يؤثر كثيرا على حياتنا وتصرفاتنا دون أن نشعر بالاضافات اليومية التي نقتبسها من الابداع التأليفي كما التمثيلي والترفيهي الذي نعيش معه.

العالم اليوم أغنى بكثير من الماضي بفضل التكنولوجيا التي انتقلت بسرعة كبيرة عبر الجغرافيا. التطور الصناعي مدهش عالميا وسمح لكافة الانجازات الثقافية الحاضرة كما السابقة بالانتقال بسرعة عبر السكان. نكتشف اليوم ثقافات كانت موجودة منذ قرون لكننا كنا نجهلها بتفاصيلها ورسالاتها بسبب بعدها وعدم قدرة المجتمعات على الوصول الى كافة خصائصها. نحاول اليوم دراسة مجتمعات قديمة للتعلم منها اذ ان العالم يتطور تدريجيا عبر ثقافات متلاحقة تضيف الخير الى بعضها البعض دون أن نتجاهل بعض الشواذات التي تضر بالانسان بسبب الظروف التي صدرت خلالها.

ثقافتنا مكونة تاريخيا ومتأثرة عمليا بما يجري حولنا وما نستورده. أكثرية المناهج التعليمية المدرسية المعتمدة دوليا تنبع من المناهج الأميركية أو الغربية عموما وان تكن مترجمة في العديد من الأحيان.  هذه المناهج توحد التفكير والممارسات والمعيشة الى حد بعيد.  حتى الأوروبيون وخاصة الفرنسيين يعانون من تأثير هذا الاستيراد الطوعي للمناهج وبالتالي للثقافة الأميركية. التأثير الثقافي لا يأتي فقط من المدارس والجامعات بل أيضا من الاستهلاك العادي أي الطعام والوجبات السريعة والمشروبات وغيرها. لا ننسى تأثير الموسيقى القوي والمسرحيات المتنوعة، ومن منا لا يستمع الى أبرز المغنيين الأميركيين والفنانين المبدعين بكافة فروع الفن والثقافة. طبعا اللغة الانكليزية هي الوسيلة الأساسية التي تمر عبرها الثقافة. ليس المطلوب رفض الاستيراد الثقافي الجيد، انما المطلوب مع الاستيراد المحافظة على الخصائص الوطنية وقد نجح الفرنسيون بها.

ماذا فعل الفرنسيون تحديدا، حيث ان 60% منهم يقولون بأن العولمة هي أكبر خطر على طريقة العيش الفرنسية ونوعيتها المميزة؟  الأفلام والمسلسلات الأميركية تنطق بالفرنسية عبر الشاشات الوطنية. الكتب الأميركية حتى المتخصصة ترجمت، كذلك العديد من البرامج التكنولوجية الحديثة. هذا لا يلغي تأثير النقل الثقافي انما يحد من مساوئ استيراد الثقافة بكافة مقوماتها. الموسيقى الأميركية تسمع في كافة أرجاء فرنسا، لكن هنالك جهدا كبيرا للمحافظة على الموسيقى والغناء والآداب المحلية وهي حتما جهود جيدة جدا. القناة الثانية الفرنسية وهي ملك الدولة تقوم بالجهد الكبير النوعي في معركة الدفاع عن الثقافة الفرنسية واللغة العريقة بأشكال وأطر مختلفة ونجحت في مهمتها.

لماذا تتطور مجتمعات بسرعة أكبر من غيرها؟ لماذا تنتج مجتمعات ابداعات واكتشافات بينما تنقل الأخرى ما جرى خارجها أحيانا دون اذن مسبق؟ هل هنالك دور للقطاع العام يعزز مناخ الانتاج وظروفه أي في التمويل والقانون؟ لا شك أن الثقافات تؤثر على العمل والانتاج كما الانتاجية. هنالك مبدعون في كل المجتمعات لكنهم يظهرون في بعضها ولا ينتجون في الأخرى. الأمور ليست مرتبطة فقط بالانسان وانما أيضا بالظروف الاقتصادية والسياسية كما الصحية العامة. هنالك مجتمعات تنوه بالأفكار الجديدة وتحترمها وان تكن خارج التقاليد المتعارف عليها والمقبولة. هنالك مجتمعات تتقدم لأن ثقافتها تتطور عبر الأفكار الجديدة الخلاقة وتشجع عليها. هنالك مجتمعات تنوه بعمل المرأة ودورها الكبير ليس فقط في التربية وانما أيضا في أسواق العمل وقد تقدمت على الرجل في ميادين عدة جديدة. مهما كانت السياسات العامة جيدة، فلا يمكن أن تعطي النتائج الفضلى في ظل ثقافات معقدة ومهترئة.

هنالك مجتمعات تقبل بدور أكبر للأصول والجنسيات والأعراق المختلفة. المهم ليس الأصل، بل العمل والنتيجة في خدمة الوطن. شهد العالم مؤخرا موجة احتجاجات كبيرة بيّنت بما لا يقبل الشك غياب العدالة بين المواطنين في معظم المجتمعات. حوادث فرنسا المبنية على الخلافات العرقية والدينية، كما حوادث أميركا المبنية على الفروقات العرقية وغيرها تشير الى هشاشة السلم الأهلي. لا يمكن حل هذه الخلافات عبر الأمن فقط، بل يجب اعتماد السياسات الصحيحة وتنوير الثقافات الموروثة. هنالك مجتمعات تؤمن بأن الحقوق والواجبات متوازية ولا تعطي أفضليات للقوي والغني. للفقير والطبقات الوسطى حقوق وواجبات، ولا يمكن اعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية وان لم يسموا كذلك. في الواقع والحقيقة، للغني حقوق أكثر وله القدرة للوصول الى غاياته بسرعة أكبر وهذا خطأ تجاه الاستقرار الاجتماعي وتجاه المستقبل. العالم تقدم، لكن لا شك هو بحاجة الى تطور اضافي نوعي في مواضيع حقوق الانسان والعدالة الاجتماعية.