بيروت - لبنان

اخر الأخبار

24 آذار 2018 12:58ص الدولة اللبنانية العمياء

حجم الخط
عرفتْ تجربة الدولة الوطنية في لبنان الوصاية منذ ولادة المتصرفيّة او دولة لبنان الصغير، ثم وصاية الانتداب الفرنسي ودولة لبنان الكبير، الى وصاية الحلفاء ودولة الاستقلال، الى وصاية الأسطول السادس الاميركي ودولة حلف بغداد، الى وصاية دولة الوحدة العربية والدولة المعسكرة، الى وصاية اتفاق القاهرة ودولة الوجود الفلسطيني المسلّح والحرب الأهلية، الى وصاية الاحتلال الاسرائيلي والدول المتعددة الجنسيات، الى الوصاية السورية ودولة الوفاق الوطني الممنوع، الى خروج الاحتلال والوصاية ودولة الهيمنة والانقسام المجتمعي المدني والمسلح والعربي والايراني ودولة العجز عن تأليف الحكومات او إجراء الانتخابات وعن انتخاب رؤساء الجمهوريات بدون وصاية الدول الاقليمية والدولية.
بعد مئة وخمسين عاماً من الوصاية والنزاع والضياع لم يُنجِز اللبنانيّون الدولة القويّة ولا الدولة الرخوة ولا الدولة الفاشلة او الدولة الانتقالية. وكلّ ما تمّ انجازه هو الدولة اللبنانية العمياء الفاقدة للبصيرة والمنعدمة الرؤية وغير القادرة على الاستشراف واستكشاف طاقاتها البشرية ووضع استراتيجياتها الانتاجية. والسلطة العمياء تألف العتمة والظلام وتعيش على الهمس والوشوشات والقيل والقال من أهل الولاء الأعمى والثقة العمياء، وتستبعد اهل العلم والخبرة والمعايير الدقيقة والقادرين على التمييز بين الخطأ والصواب من اصحاب التجارب والابتكارات. في الدولة العمياء يكثر الكلام وتنعدم الافعال وتتحكّم الغرائز الطائفية والقبلية والمناطقية بالكبار والصغار. والسلطة العمياء تتحسّس طريقها ووجودها عبر اصحاب السوابق المخضرمين بالعمى والتعثر والتوهان والدوران حول الذات والتقوقع والضياع والهدر والفساد. 
ان من بديهيات الدولة العمياء هو ان تفاخر بالعجز والحاجة وكونها من ذوي الحاجات الخاصة، وتحتمي بإعاقتها وتستجدي العطف والعطاء من الدول القوية حيث المجتمعات المتبصّرة والمتنوّرة والخلاّقة والمتجدّدة وحيث يتقدّم اهل الخبرة على اهل الثقة في القطاع العام والخاص، وحيث الشفافية والحوكمة والإنجازات والأرقام والتحقّق من نقاء الماء والهواء ومستقبل الأجيال عبر التعليم المتجدد دوماً، وحيث تحاكم المجتمعات الحُكام على اساس الانجازات والمصلحة العامة والخطأ والصواب وتناقش الإسترتيجيات والتطلعات التي تُحاكي الانسياب الانساني وتطوّر المجتمعات وتُمعن النظر والتبصُّر في حاضرها وتحدّياتها وبما يدور حولها وما قد يعترض طريقها نحو التقدم والازدهار، والدول القوية ايضا تتكرّم ببعض الصدقات والعطاءات على الدولة العمياء.
اللبنانيّون يولَدون مبصرين، أصحّاءَ، محبّين للحياة والتنوّر والاطلاع، ومغامرين ومهاجرين شجعان وفيهم آلاف الآلاف من المتبصّرين المتنوّرين والمفكّرين والمبدعين والاستشرافيّين والباحثين والعلماء وأهل الاختصاص والاعلاميّين والخبراء الذين يعيشون خارج مؤسسات الدولة العمياء، وهم في حالة حوار ونقاش خلاّق في كلّ مجال واختصاص، وفي كلّ الموضوعات الوطنيّة والمهنيّة والعربيّة والاقليميّة والدوليّة، وجميعهم بشر أسوياء ومواطنون أصحّاء وأصدقاء وينتظمون في حلقات إجتماعية وثقافية ومهنية وفكريّة ويتحرّكون برشاقة وحرية وابداع، الى ان تناديهم السلطة العمياء كوزراء او نواب او مدراء او جنرالات او سفراء او مستشارين. عندها يصابون بعمى السلطة وتنعدم لديهم الرؤية والارادة ويتنازلون عن تنوّرهم وبصيرتهم ويضلّون الطريق الى مجتمعاتهم الخلاّقة ويستقرّون في السلطة العمياء.
عرفتُ الحبّ الأعمى والحقد الاعمى والجهل الاعمى والتعصّب الاعمى والعنف الاعمى والولاء الاعمى والغيرة العمياء والثقة العمياء، ولم اكن اعرف قبل الآن أنّني اعمى في الدولة اللبنانية العمياء.