بيروت - لبنان

اخر الأخبار

29 كانون الأول 2020 12:02ص الضياع اللبناني في المشهد الإقليمي

حجم الخط
الإيجابية الوحيدة التي يشعر بها اللبنانيون خلال الأسبوع الأخير من العام 2020 هي في توقّف كلّ الملوثات البصرية والسمعية المتعلّقة بتشكيل الحكومة. هي نقاهة حقيقية لم تأتِ بسبب عطلة الأعياد، بل لبلوغ السخافة والخواء السياسي درجات غير مسبوقة في أكثر الدول فساداً وتخلفّاً. تأخذنا التحضيرات التي تتولاها المرجعيات للقاءات القمّة بين الرئيس المكلّف ورئيس الجمهورية إلى ما يذكّر بلقاءات الجباريّن أيام الحرب الباردة لبحث ما يتعلّق بأمن الكوكب. أما اللقاءات الصامتة بين الجباريّن التي يحاولان من خلالها إشاعة أجواء التفاؤل أو إيهامنا بأنهما على وشك القيام بعمل خارق لإنقاذ لبنان، أو أنهما يكيّلان بمكيال الذهب معايير التشكيل خلال البحث عن الوزراء ذوي الاختصاص من خارج الوسط السياسي العفن، فحدث عنها ولا حرج.

سئمناكم جميعكم وسئمنا ضحالتكم وعجزكم ، فالخواء لا ينضح إلا خواءً. أنتم أصحاب الضمائر الغائبة الغارقون في الفساد حتى آذانكم، أعجز من أن تكونوا في يوم من الأيام على قدر المسؤولية، نعلم أنّ القرار عند أسيادكم فأريحونا من ضجيجكم.

الضياع اللبناني ليس سوى مشهد ينسجم  مع غياب القدرات وتحلّل كلّ ما يتعلّق بالحوكمة في الدولة اللبنانية وبالقدرة على اتّخاذ القرار. تستعرض القوى الإقليمية - تركيا، إسرائيل ودول الخليج، وإيران - قدراتها الدبلوماسية والامنية في ظلّ عدم وضوح توجهات الإدارة الأميركية الجديدة وكثرة الرهانات وتقاطع المصالح، فيما تقف دول ثلاث هي العراق وسوريا ولبنان على مفترق طرق خطير يهدد مستقبلها كدولة مستقلة. 

هناك مسلّمتان في الأجندة الأميركية  لقبول الانتساب الى النادي الأميركي، الأولى هي طيّ صفحة الصراع مع إسرائيل ليصبح جزءاً من الماضي، والثانية هي التحكّم الأميركي بملف الطاقة في المنطقة. ثابتتان لا تستطيع الإدارة الجديدة تجاوزهما بل فقط البناء عليهما، مع إمكانية إقامة محاور وتحالفات إقليمية واستمرار الإشكالات المتبقيّة في المنطقة في حدود المقبول وتحت السيطرة. وبخلاف كلّ ما تحاول القوى الإقليمية تسويقه من عناوين وثوابت، فمن البديهي الاستنتاج أنّها دون استثناء تحاذر الاصطدام بالولايات المتّحدة الأميركية، وإنّ ما تقوم به من إجراءات ليس سوى محاولة لتضخيم القدرات وتحسين شروط الشراكة مع الولايات المتّحدة الأميركية:

في الإجراءات الخليجية – الإسرائيلية، يمكن تسجيل ما يلي:

أولاً، نجاح المملكة العربية السعودية في الضغط على جميع الأطراف في اليمن لتنفيذ إتّفاق الرياض الموقّع في 5 تشرين الثاني 2019 بين قوات الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً وقوات المجلس الانتقالي الجنوبي المطالب بانفصال جنوب البلد عن شمالها، تمهيداً للإعلان عن تشكيلة الحكومة الجديدة وعودتها لممارسة مهامها. يمثّل تنفيذ الاتّفاق حاجة سعودية إماراتية قبل أن تكون يمنية، لتثبيت دور التحالف الذي تقوده السعودية واستباق أي تغييرات قد تطرأ على سياسة الإدارة الأميركية الجديدة. 

ثانياً، نجاح الإمارات في السيطرة على جزيرة سقطرى ضمن سباق لبسط النفوذ على الموانئ والمياه والمواقع اليمنية لما لأهمية هذه الجزيرة في السيطرة على البحر الأحمر وخليج عدن وخطوط تدفّق نفط دول الخليج العربي إلى خارج المنطقة، وخطوط الملاحة الدوليّة عموماً وعزم الإمارات وإسرائيل  إنشاء مرافق عسكرية واستخبارية في الجزيرة.

ثالثاً، المتابعة الإسرائيلية الحثيثة لتدمير البنيّة العسكرية للحرس الثوري الإيراني، وآخر فصوله تدمير مركز البحوث العلمية في مصياف وهو منشأة مخصّصة لصناعة الأسلحة الكيماوية وتطوير الأسلحة المتوسطة وطويلة المدى بإشراف إيراني، بحسب وثيقة نشرها موقع BBC  لما يشكّل من خطورة على حدودها وأمنها القومي في المنطقة.

أما في الإجراءات التركية: فإنّ توقف عمليات إعادة المرتزقة السوريين الذين دفعت بهم لدعم صفوف قوات حكومة الوفاق الليبية، منذ أكثر من ستة أسابيع، والتمسّك ببقاء نحو 8000 منهم، رغم توقّف المعارك بين طرفيّ الصراع وتوقيع إتّفاق لوقف إطلاق النار، وسعي تركيا لإقامة قاعدة عسكرية على ساحل ليبيا في منطقة قريبة من جزيرة كريت اليونانية، ليس سوى  استعراض قوة يبعثّر الأوراق المتعلّقة بالنفط والنفوذ في شرق البحر المتوسط  ويؤسّس  لموقع تركيا في حسابات الإدارة الأميركية الجديدة. يُضاف إلى هذا التورط إعادة التوتر إلى شمال غرب سوريا والى مناطق خفض التوتر واستعادة الفصائل المتطرفة لنشاطها الميداني برعاية تركية.

وفي الإجراءات الإيرانية: تسجّل زيارة قائد القوات البحرية في الحرس الثوري الإيراني الأدميرال علي رضا تنكسيري، لجزيرتيّ «طنب الكبرى» و«طنب الصغرى»، المتنازع عليهما مع الإمارات، وتأكيده على استعداد الحرس الثوري الإيراني لحماية الحدود المائية والدفاع عن مصالح وأمن البلاد والحفاظ على الجاهزية القتالية. تأتي هذه الزيارة كاجراء لا يرقى الى مستوى التحدي وسط أجواء التصعيد، بين واشنطن وطهران، بعد تعرّض السفارة الأميركية في بغداد لهجمات صاروخية قبل أيام، وفي ظلّ إنسداد الأفق أمام طهران في سوريا واليمن والعراق.

بالتزامن يمثّل كل من لبنان وسوريا والعراق ثلاثة نماذج للدول المحكومة بفوضى نظام ولاية الفقيه. الفارق بين الدول الثلاث هي في مستوى امتلاك السلطة للشجاعة الوطنية والقدرة على استعادة القرار لتثبيت سلطة القانون. يمثّل العراق بشخص رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي نموذجاً قابلاً لاستعادة السيادة ومواجهة الفساد وحصر السلاح بيد القوى الشرعيّة، وهو نجح فعلاً في السيطرة على الحدود مع سوريا، وتحويل جزء من هذه الحدود الى منطقة اهتمام دولية مع اكتشاف كميات كبيرة من الغاز في محافظة الأنبار الواقعة في المنطقة الحدودية مع السعودية والأردن وسوريا. وبالمقابل تتخبط سوريا في فوضى الفشل الإيراني والطموحات الروسية والبراغماتية التركية، مع القدرة على الاحتفاظ  بهامش للمناورة على خلفيّة المساومة على السلطة التي يمتلكها نظرياً رأس النظام  بموجب الدستور، وضمان سلامة خروجه، ويسجّل لبنان النموذج الأكثر ضياعاً لانتفاء القدرة لدى السلطة الشرعيّة على اتّخاذ أي قرار وسقوط الدولة كلياً بيد حزب الله. 

فماذا يروم العالم من دولة لم يتخلص ساستها بعد من عقدة البحث عمن يدير شؤونهم وما زالوا يتندرون بروايات الوصاية، دولة تدخلها آلاف الأطنان من نيترات الأمونيوم وتخرج منها ملايين من حبوب الكابتغون دون علم السلطة.

* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات

Twitter: @KMHamade