بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 أيلول 2020 08:29ص العلاج الخارجي لإستعادة دولة السيادة

حجم الخط
يشكّل موضوع استعادة الدولة اللبنانية لسيادتها واحدة من أكثر المسائل الضاغطة، التي يواجهها المجتمع اللبناني، وذلك في ظل الانتهاكات المتمادية للحدود، ولقدرة مؤسسات الدولة على ممارسة سلطاتها المطلقة في صنع القرارات الوطنية وفرض سلطة القانون وحفظ الأمن والاستقرار العام. وهذا هو جوهر وظيفة الدولة لممارسة دورها السيادي، والذي لا يمكن لأية جماعة أو كيان الادعاء بالحق في مشاركتها في ممارسته، وذلك انطلاقاً من مسلَّمة ان تقسيم هذا الحق يعني تدمير وحدة الدولة، تمهيداً لإسقاطها وزوالها.

فقدت الدولة اللبنانية دورها السيادي بالكامل في ظل فترة الوصاية السورية، حيث التزمت السلطات السورية بتنفيذ كل الوظائف السيادية داخلياً وخارجياً، بما في ذلك السيطرة على عملية تشكيل السلطات الرسمية وإدارة مؤسسات الدولة، والتدخل في القضاء، واجراء الانتخابات العامة للاتيان بمجلس نيابي مطواع، يراعي المصالح السورية، وخصوصاً لجهة تأمين استمرارية الهيمنة السورية على البلاد.

كان من المفترض بعد الخروج السوري من لبنان في عام 2005 ان تبادر السلطات اللبنانية إلى القيام بكل الخطوات السياسية اللازمة التي تحقق استعادة الدولة بحقوقها ووظائفها السياسية، وذلك بعد ان استعادت شرعيتها التي كانت مسلوبة منها من قبل قوات الاحتلال السوري وحلفائها. لكن ذلك لم يحدث في ظل الانقسام القائم بين القوى السياسية بين حليف وخصم لسوريا، وفي ظل وجود حزب الله المحتفظ بسلاحه كمقاومة مدعومة من قوى الممانعة والمقاومة، المؤيدة لسوريا وإيران.

انطلاقاً من نتائج حرب 2006 مع إسرائيل وصدور القرار 1701 عاد حزب الله إلى الداخل ليتحول سلاحه ودعم إيران غير المحدود له  إلى قوة مهيمنة على الدولة اللبنانية، كما تحوّل إلى قوة إقليمية من خلال تدخله في الحرب السورية وفي الصراعات داخل الدول العربية الأخرى امتداداً من العراق إلى الكويت والبحرين ووصولاً إلى اليمن، وكان من نتيجة ذلك دخول لبنان في حالة من العزلة الدولية والعربية.

مع استمرار تنامي قوة ونفوذ حزب الله داخل الدولة والمجتمع فقد تراجعت قدرات الدولة على ممارسة أي من وظائفها السيادية من ضبط الحدود، إلى الهيمنة على عمل مختلف المؤسسات الرسمية، وذلك من خلال وصول كادراته إلى مفاصل القرار، أو من خلال التعاون مع حلفائه داخل المؤسسات، وبلغت حالة النفوذ ذروتها من خلال نجاح الحزب لاعتماد العماد ميشال عون كمرشح وحيد لرئاسة الجمهورية وبالتالي انتخابه قبل ما يقارب أربع سنوات.

بلغ تدخل حزب الله في الأدوار السياسية التي يفترض ان تكون منوطة حصرياً بالدولة حدوداً غير مقبولة - حتى بات السيّد حسن نصر الله هو الموجه الفعلي للدولة ومؤسساتها، فهو يُحدّد علناً وسراً ما هو مسموح وما هو ممنوع على الدولة فعله، ولدرجة تعدّت المقبول عندما بلغ تدخله حدود تشكيل حكومة حسان دياب، والتي سميت باسم حكومة الحزب.

المؤسف بأن الشعارات التي رفعتها الانتفاضة والمظاهرات التي عمّت المدن اللبنانية لأشهر عديدة لم تكن كافية لإقناع الطبقة السياسية باعتماد طريق الإصلاح ومكافحة الفساد. كما ان صدور حكم المحكمة الدولية في جريمة اغتيال رفيق الحريري وانفجار مرفأ بيروت المدمر لم يثنيا حزب الله وحلفاءه في فك الحصار عن الدولة والسماح لها بالسيطرة على حدودها البرية ومعابرها الشرعية كالمطار والمرفأ، حيث تستمر جميع أعمال انتهاك السيادة وحرمة القانون.

أكدت أحداث شهر آب الماضي واحداث الأسبوع الأوّل من أيلول مدى المخاطر التي يواجهها اللبنانيون في ظل استمرار تغييب عامل السيادة ومطلب الحياد الذي يرفعه البطريرك الراعي، ويبدو بأن القوى السياسية مستمرة في رفضها للاذعان للتوجهات المتمثلة بمبادرة الرئيس ايمانويل ماكرون من أجل تشكيل حكومة اختصاصيين مستقلين، ومن خارج الطبقة السياسية، قادرة على استعادة سيادة الدولة وحكم القانون، تمهيداً للانطلاق من مشروع إصلاحي واسع، وفي مكافحة الفساد الذي حماه حزب الله من أجل خدمة مصالح حلفائه في السلطة.

وطالما اننا نتحدث عن فقدان الدولة لكل عوامل السيادة، نجد لزاماً علينا ان نتساءل عن السلطة التي اعطت الضوء الأخضر لقدوم إسماعيل هنية إلى لبنان، وعن زيارته لمخيم عين الحلوة (المحروسة مداخله من الجيش)، مع ما تخلل هذه الزيارة من انتهاكات للسيادة الوطنية أطلقها الزائر الغريب، وما تخللها من تهديدات بضرب تل أبيب وما بعد تل أبيب بالصواريخ من لبنان، ويبدو بأنه أراد بذلك ان يقلد سلوكية حزب الله وقادة الحرس الثوري بالتهديد بتدمير إسرائيل من لبنان، متناسياً المخاطر التي سيواجهها اللبنانيون جرّاء هذا الكلام المتفلت من كل ضوابط السيادة والمصلحة اللبنانية العليا.

تشكّل المبادرة الفرنسية والجهود المتابعة لها لتشكيل حكومة جديدة برئاسة مصطفى أديب فرصة ذهبية للخروج من حالة الدولة المنحلة الفاقدة للسيادة، لكن يبدو بأن القوى السياسية مع المناورات السياسية التي تقودها تحت اسم مسميات الميثاقية الباطلة والفارغة من أي مضمون شرعي ودستوري، تعمل في وضح النهار على اسقاطها بهدف الحفاظ على دولة المزارع الطائفية بدل الولوج إلى رحاب الدولة السيدة، والمؤسف بأن الرئيس عون يساهم بشكل مباشر في تجاوز الدتسور ومواده التي تحدد أطر الصلاحيات في تشكيل الحكومات، هذا بالإضافة إلى التملص من التعهدات التي قطعها للرئيس ماكرون للعمل على دعم المبادرة الفرنسية. 

ان الاستشارات اللاحقة التي أجراها الرئيس عون تعد خروجاً فاضحاً على الدستور وهي تأتي استكمالاً للتجاوزات التي نفذها الرئيس منذ بداية عهده (لدستور الطائف) من خلال العمل على تجاوز النص بالممارسة، وبالتالي انتزاع صلاحيات رئاسية عفا عنها الزمن.

يبدو في هذا السياق بأن الثنائي الشيعي لا يرى ضرورة لإعطاء لبنان فرصة للتعافي، بالرغم من كل الضغوط الفرنسية والأوروبية من أجل إنقاذ الدولة، ومنعها من السقوط، ولذا فان الثنائي يبدو ممعناً في تحدي الضغوط والعقوبات الأميركية، في عملية هروب إلى الامام من الصعب جداً التكهن بعواقبها.

في النهاية لا بدّ من تذكير جميع القوى المعرقلة لتشكيلة الحكومة، وتلك المتكبرة على الدولة حقها باسترجاع سيادتها، واعتماد الحياد بأن لبنان بعد انفجار 4 آب قد دخل في مرحلة جديدة، وبأن هناك إرادة فرنسية وأوروبية وأميركية للدخول في قلب المعادلة الداخلية من أجل استرجاع سيادة الدولة وتحرير سلطة القانون - من هناك فإن على حزب الله وحلفائه ان يدركوا مخاطر الانزلاق إلى لعبة قد تؤدي إلى تدويل كامل للوضع اللبناني، وبما يعني وضع الدولة اللبنانية تحت وصاية دولية كاملة.

في المحصلة من المرتقب ان يؤدي هذا المخاض الراهن لخروج لبنان من تحت عباءة حزب الله، مع التهيئة لانتخابات حرة ونزيهة، تحضيراً لانتخاب رئيس جديد متحرر من وصاية حزب الله، على ان يسبق ذلك أو يترافق معه إسقاط جميع الدعوات لاستعادة البعض لمشروع التقسيم والفيدرالية، وذلك لوضع البلاد على طريق إصلاح سياسي حقيق، من خلال تنفيذ اتفاق الطائف وقيام دولة مدنية علمانية، دولة السيادة والاستقلال والقانون.

من هنا تبرز الحاجة ملحة لدعوة البطريرك الراعي لتوسيع دعواته الإنقاذية، بحيث لا تقتصر على حياد لبنان، بل تتعدّى ذلك للمطالبة بتحقيق السيادة والحياد، انطلاقاً من المبدأ القائل: لا حياد دون سيادة.