بيروت - لبنان

اخر الأخبار

18 تشرين الثاني 2020 06:21ص بكركي تدق ناقوس الخطر

حجم الخط
يقول إبن منظور في «لسان العرب» بأن «المداهنة هي لغة المصانعة والمنافقة، أي ان يظهر المرء غير ما يضمر. وهي عكس المصارحة، أي المجاهرة بما هو مكنون الضمير والمكاشفة به». يدعوني هذا القول للتساؤل عن مصداقية الخطاب الذي اعتمده الرؤساء والسياسيون اللبنانيون واحزابهم وتياراتهم في محادثاتهم مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون حول تأييدهم للمبادرة الفرنسية للاصلاح. لقد اثبتوا جميعاً بأنهم اعتمدوا لغة المداهنة والكذب المتعمد والرخيص في الوعود التي قطعوها بالالتزام بالمبادرة الفرنسية، وذلك من خلال الحواجز والعراقيل التي وضعوها في طريق تشكيل الحكومة من قبل السفير مصطفى أديب، والتي يكررونها الآن مع الرئيس سعد الحريري. وذلك في محاولة مكشوفة للعودة إلى حكومات الفساد والمحاصصة.

تتجاهل مختلف القوى والقيادات السياسية وعلى رأسها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بأن المبادرة الفرنسية إنما جاءت نتيجة ظروف ضاغطة، بدأت مع الثورة الشعبية التي أطلقتها ثورة 17 تشرين، التي طالبت بإسقاط وتغيير كل الطبقة السياسية الراهنة، وفي ظل الاخطار الاقتصادية والمعيشية وفلتان سعر الدولار، وتفشي جائحة كورونا، وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت في 4 آب مع كل ما تسبب به من قتلى وجرحى وتشريد لمئات الآلاف من العائلات بعد تدمير منازلهم.

يبدو أن جميع القوى السياسية قد قررت القفز فوق كل هذه الحقائق المؤلمة وتجاهل التحديات والمخاطر التي ستترتب على الانهيار الاقتصادي والمالي الكامل، مع كل ما سينتج عنها من تداعيات اجتماعية وسياسية، والعودة بالتالي إلى نهج المحاصصة في توزيع الوزارات، مع التشدّد على حصولها على الوزارات الخداماتية  كالطاقة والاتصالات والاشغال بالإضافة إلى وزارة المالية ووزارة الصحة، وبما يعني ان يحافظ كل فريق على «مغارة علي بابا» الخاصة به.

تابعت القوى السياسية منذ إطلاق ماكرون لمبادرته قبل شهرين ونصف نفاقها ومناوراتها الخادعة، حيث انها تصرح بأنها مع المبادرة وجاهدة لانجاحها، ولكنها تسعى فعلياً لإسقاطها، وذلك من خلال إغراق الرئيس المكلف بمطالبها لجهة تشكيل حكومة فضفاضة، بالإضافة إلى تسمية كل فريق لوزرائه، وبالتالي الدفع لكي تأتي الحكومة العتيدة على شاكلة حكومة حسان دياب، والتي فشلت فشلاً ذريعاً بسبب سقوطها ضحية التجاذبات السياسية والمصالح المتعارضة بين القوى التي اختارت الوزراء.

دفعت ممارسات الطبقة السياسية المخادعة السفير أديب للاعتذار عن تشكيل الحكومة، بعد ان شعر بحالة من العجز الكامل عن الاضطلاع بالمهمة التي انتدب إليها، استناداً إلى المنطق الاصلاحي الذي استندت عليه خطة ماكرون، والذي يستدعي تشكيل «حكومة مهمة» غير سياسية. وكان في رأينا من الطبيعي ان يتلقف الرئيس الحريري كرة النار، ويعلن بشجاعة فائقة عن استعداده لقبول التكليف، انطلاقاً من تجديد كل القوى السياسية، بدءاً من رئيس الجمهورية وتياره السياسي التزامه بالمبادرة الفرنسية، وتعهده بإنجاح مسعى تشكيل الحكومة الإصلاحية المطلوبة، لكن سرعان ما اتضحت النوايا الساعية إلى التمادي في تعطيل تشكيل الحكومة، لترويض الرئيس المكلف، ودفعه صاغراً، للتراجع عن إصراره لتشكيل حكومة اختصاصيين من المستقلين، تكون قادرة على تطبيق رزمة الإصلاحات المطلوبة في المبادرة الفرنسية.

التزاماً بنص وروح المبادرة حصر الرئيس المكلف مساعيه لبحث التشكيلة الحكومية برئيس الجمهورية من خلال عقد سلسلة من الاجتماعات، مع حرصه على الإبقاء على سرية المداولات بينهما، لكن كل هذا الحرص الذي ابداه، لم يفتح أي ثغرة أمل في جدار التعطيل المتمثل بخطة الرئيس عون لإحراج الرئيس الحريري ودفعه إلى التفاوض مع رؤساء الكتل النيابية للاطلاع على مطالبها وتحقيقها. وكان من الواضح بأن تكون الخطوة الأساسية، على هذا المسار الاجتماع بجبران باسيل، وتحقيق مطالبه بالحصول على الحصة الكبرى من الوزراء المسيحيين في الحكومة، وبما يؤمن له من حلفائه الحصول على الثلث المعطل للتحكم بمسار الحكومة وقراراتها.

دفعت عملية التعطيل الممنهجة التي اعتمدها الرئيس عون وحليفه حزب الله من خلال اصراره (مع حليفه) الرئيس برّي للحصول على وزارة المال وتسميته باقي الوزراء الشيعة وهذا ما دفع الرئيس ماكرون لتكثيف جهوده الدبلوماسية، واجراء اتصال هاتفي أو أكثر برئيس الجمهورية مطالباً بتدخله شخصياً لحلحلة العقد ومساعدة الرئيس المكلف على النجاح في مهمته. ولكن سرعان ما ادرك الرئيس ماكرون ازدواجية المواقف للعهد وحلفائه فأرسل موفده باتريك دوريل في مهمة استطلاعية، ونقل تحذيرات ماكرون، والتذكير بالنتائج التي ستترتب على إفشال عملية التشكيل.

دفع انتهاء مهمة المبعوث الرئاسي الفرنسي دون أية نتائج إيجابية، البطريرك مار بشارة بطرس الراعي إلى رفع سقف انتقاداته وتحذيراته للمسؤولين، متوجهاً إلى رأس هرم السلطة، في عظة قدّاس يوم الأحد الماضي، حيث قال: «هذا التمادي في تعطيل تشكيل الحكومة والاستهتار بمصالح الشعب والوطن، هل هو جزء من مشروع إسقاط دولة لبنان الكبير؟ لا نستطيع ان نرى هدفاً لهذا التعطيل المتمادي المرفق بإسقاط ممنهج للقدرة المالية والمصرفية وبإفقار الشعب حتى جعله متسولاً»، ولقد ذهب إلى أبعد من ذلك باتهامهم باستباحة الدستور والميثاق وهوية لبنان ورسالته مع الاسرتين العربية والدولية.

يُدرك الرئيس ماكرون كما يُدرك البطريرك ومعه معظم اللبنانيين بأن الحل هو في يد الرئيس عون، الذي عليه ان يُساعد رئيس الحكومة، المكلف في تشكيل حكومة اختصاصيين مستقلين، وذلك خلال أقل من يومين، إذا توافرت الإرادة والنية لذلك. وفي هذا السياق نجد انه من واجبنا تذكير الرئيس عون بأن بدأ السنة الخامسة من عهده، ولم يعد لديه الوقت للتفكير طويلاً في كتابة صفحته في التاريخ كرئيس للبلاد، وندعوه بالتالي إلى العمل بجدية لتلقف الفرصة السانحة من خلال المبادرة الفرنسية للانخراط فعلياً في التأسيس للعملية الإصلاحية الشاملة. وعلى فخامته ان يصغي ويتعظ من الكلام الذي وجهه إليه شخصياً البطريرك في عظته عندما تحدث عن إسقاط دولة لبنان الكبير، وعن استباحة الدستور والميثاق وهوية لبنان، والتي تشكّل مجتمعة مضمون ما اقسم الرئيس عليه عند تسلمه مقاليد قيادة البلاد.

يعلم الجميع في الداخل وفي الخارج بأن التمادي الحاصل في تعطيل تشكيل الحكومة سيؤدي حتماً إلى إلغاء المؤتمر لمساعدة لبنان والذي يدعو الرئيس ماكرون الى انعقاده خلال الشهر الجاري، وستضيع مع ذلك فرصة ذهبية جديدة لإنقاذ لبنان اقتصادياً ومالياً، وذلك على غرار إضاعة فرصة حصول لبنان على 11 مليار دولار، سبق ان تقررت في مؤتمر «سيدر»، هذا بالإضافة إلى تبديد جميع المساعدات والقروض والودائع التي كان يحصل عليها لبنان من الدول الخليجية. ويدرك الرئيس وحلفاؤه ان تحالفه مع حزب الله، وتخليه عن الالتزام بالتضامن العربي في مواجهة التهديدات الداهمة لأمن المنطقة قد شكل السبب الجوهري والمباشر للقطيعة الخليجية مع لبنان.

في النهاية لا بدّ من التذكير بأن المكابرة واستكمال مسيرة الفساد لن تخدم مصلحة لبنان ولا العهد ولا التيار الوطني الحر، وبأن تهمة الفساد لن تقتصر على جبران باسيل، وبأن سيف العقوبات الأميركية سيطال عاجلاً أم آجلاً رؤوس العديد من الفاسدين، وسيكون العدد الأكبر منهم من التيار أو حلفائه أو المحسوبين على العهد. لم يعد من الممكن الهروب إلى الامام باعتماد المكابرة أو سلوكية المداهنة، وذلك بعد ان جهر الأميركيون بخططهم لمعاقبة العديد من الفاسدين مهما علت مواقعهم.

وليدرك الجميع بأن لبنان في خطر محدق، وهو على وشك السقوط، وهذا ما دفع سيّد بكركي لدق ناقوس الخطر حول مصير «لبنان الكبير».