بيروت - لبنان

اخر الأخبار

23 تشرين الأول 2019 12:05ص حذارِ الدفع نحو الفتنة

حجم الخط
يعيش لبنان لحظات تاريخية في ظل الانتفاضة الشعبية الجامعة والمعممة على كل المناطق، حيث تحدت جموع المواطنين كل الحواجز الطائفية والمذهبية والمناطقية لتجتمع في مظاهرات عامة طلباً للكرامة وللإصلاح وبناء الحكم الرشيد. أثبت اللبنانيون قدرتهم على اجتياز حاجز الخوف والخروج من تحت عباءة أحزابهم وقياداتهم الطائفية والمذهبية لاستظلال خيمة الوطن، مطالبين بإسقاط هذه الطغمة السياسية التي تحكمهم منذ عقود مستغلة انقساماتهم الدينية لخدمة مصالحها على حساب لقمة عيشهم وكرامتهم ومستقبل أولادهم.

أخطأ جميع الذين رأوا بأن لبنان سيبقى عصياً على موجة الانتفاضات التي عصفت بالعالم العربي، مطالبة بتغيير الأنظمة التي تحكمها. لقد تمرد اللبنانيون على كل احزابهم وقياداتهم، رافضين لكل التهديدات المتكررة التي سمعوها عن احتلال الساحات في كل المناطق، وتغيير كل المعادلات القائمة. لقد اثبتوا خلال الأيام الماضية وسيؤكدون في الأيام المقبلة بأنهم هم وحدهم وبوحدتهم الوطنية، بعيداً عن كل الانقسامات التي أذكاها تجار السياسة الطائفيين، قادرون على الإمساك بالمبادرة وتغيير كل المعادلات السياسية على المستويين الوطني والخارجي.

سارع أهل الحكم بعد ان أيقنوا بأن الشارع قد أفلت من سيطرتهم إلى إقرار سلة كبيرة من الإصلاحات الموعودة، خلال مهلة تقل عن 72 ساعة كما حددها رئيس الحكومة سعد الحريري. ويشكل اعلان نتائج جلسة مجلس الوزراء «الماراتونية» التي عقدت الاثنين الماضي في قصر بعبدا إدانة واضحة للعهد والحكومة، ولكل الطبقة السياسية، حيث استشرى الجميع في خدمة مصالحهم على حساب مصالح الشعب، فأمعنوا في فسادهم وفي سرقة ونهب المال العام.

يؤشر ما حصل في الأيام القليلة الماضية إلى حالة الاهتراء السياسي والبنيوي للدولة اللبنانية، كما يؤكد على مستوى التدهور الأخلاقي لدى الفئة السياسية الحاكمة وغرقها بالتالي في هذا المستنقع من الفساد.

لكن فات هذه الطغمة الحاكمة بأن اعلان مجموعة الإصلاحات التي اقرها مجلس الوزراء لن تكون كافية أو قادرة على إعادة بناء الثقة بين الدولة والجموع المنتفضة، بعدما أنهكها الصبر وطول الاناة خلال ثلاث سنوات انقضت من عمر العهد القوي، والذي جاء تحت شعار الإصلاح والتغيير.

تشكل البنود الإصلاحية التي أعلنها الرئيس الحريري وعوداً بالإصلاح على شاكلة تلك الوعود التي ترد في البيان الوزاري، والتي تتلى في جلسة الثقة بالحكومة، والتي تذهب بعد الجلسة إلى خانة الإهمال والنسيان، فيجري انتهاكها من قبل الجميع، انطلاقاً من اعتبارات وأولويات لا علاقة لها بمصلحة الوطن، بل تخدم مصالح الطبقة الحاكمة وارتباطاتها الخارجية. ولا بد من التذكير بمصير سياسة النأي بالنفس او التزام لبنان بوحدة الموقف العربي؟

يمكن أن نذهب في تشاؤمنا حول مصير الإصلاحات المعلنة وعدم جدية الطبقة الحاكمة في تنفيذها في مواعيدها من خلال التذكير بتراجع القوى السياسية نفسها عند تنفيذ قرارات وطنية تاريخية ومصيرية سبق لها واقرتها، ووقعت عليها، لتنقلب عليها في اليوم التالي، ونذكر منها على سبيل المثال: اعلان بعبدا الذي اقر في عهد الرئيس ميشال سليمان، ومقررات الحوار الوطني الذي قاده الرئيس نبيه بري في مجلس النواب، حيث ذهبت جميعها إلى خانة النسيان.

يبدو بأن الأمور ستكون مختلفة عن سابقاتها هذه المرة، حيث استمرت المطالبات الملحة بضرورة اسقاط كل الطبقة السياسية، مع الإصرار على رفض مناورة مجلس الوزراء لاحتواء غضب الناس من خلال الإعلان عن إصلاحات مهمة، كان أبرزها قرار الطبقة السياسية نفسها بتخفيض الرواتب الخاصة بالنواب والوزراء.

في الواقع هناك مفارقة كبيرة في تعامل الشارع مع الطبقة السياسية الحاكمة بالمقارنة مع التجارب السابقة وهي تتمثل بالوعي الوطني الذي تجاوز ولأول مرة في تاريخ لبنان كل الخطوط والحواجز الطائفية والحزبية، كما أسقط كل الشعارات التي يستغلها السياسيون لشد العصب الطائفي والمذهبي لحماية مواقعهم وزيادة نفوذهم، والتي كان آخرها خطاب السيد حسن نصر الله في رأس العين بمناسبة اربعينية الحسين بن علي، والذي هدد فيه الجميع ، معلناً بأن اسقاط العهد والحكومة خط أحمر. لكن يبدو بأن السيد نصر الله لم يقرأ بصورة واقعية نبض الشارع المنطلق من انعدام الثقة الشعبية بهذا النظام الفاسد، مع المفارقة بأن حزب الله يرفع شعار الحرب على الفساد منذ تشكيل هذه الحكومة الفاسدة بكل مكوناتها وسلوكياتها ، ولكنه شعار فارغ من اي مضمون.

يبدو بأن الجماهير قد قررت البقاء في الساحات إلى حين تحقيق مطلبها الأساسي، والذي يتمثل باستقالة الحكومة الراهنة وتشكيل حكومة «تكنوقراط» توحي بالثقة، وتتولى عملية الإصلاح والحرب على الفساد. لكن لا بد من الإقرار بوجود عقبات ومخاطر امام التوصل إلى هذا المخرج أقله اقناع فريق العهد وحزب الله بالقبول به، حيث يبدو بأنهما يصران على بقاء الحكومة التي تؤمن لهما السيطرة على كل مقدرات البلاد، كما تخدم مصالح حليفيهما في دمشق وطهران.

أما الخيار الثاني البديل فيتمثل بتوصل الرئيس الحريري للاقتناع بالاستقالة تجاوباً مع مطالب الحركة الشعبية  ولكن لا بد ان يعمل مع العهد وحزب الله لاقناعهما بقبول قراره بالاستقالة، بحيث يسهل ذلك خطواته اللاحقة لتشكيل حكومة بديلة مصغرة ومختلطة. أما اذا استقال بقراره المستقل فيمكن اعتبار ذلك بمثابة قفزة في المجهول وغير محسوبة النتائج.

ويتركز الخيار الثالث على خلق الظروف المؤاتية لفض الاعتصام من قبل الأجهزة الأمنية والجيش، مع كل ما يرافق ذلك من غموض للنتائج التي يمكن ان تترتب على ذلك لجهة إشاعة أجواء من الفوضى والادانة الدولية، وبالتالي ضياع كل الآمال القائمة على مساعدة المجتمعين الدولي والعربي للبنان للنهوض الاقتصادي عبر «سيدر».

ويبقى الخيار الرابع وهو الأخطر ويتمثل بدفع أمل وحزب الله بمحازبيهما إلى الشارع للاحتكاك مع الجموع في الساحات من أجل ترويعها وفض اعتصاماتها.

سيدفع هذا السيناريو نحو حدوث فتنة وطنية خطيرة. ولا بد هنا من التحذير من اعتماد هذا الخيار حيث ستترتب عليه نتائج وخيمة على الوطن وعلى صانعي الفتنة أنفسهم. حذار استسهال الدفع باتجاه الفتنة.

لا بد في النهاية من التساؤل عن دور الجيش في مواجهة كل هذه السيناريوهات؟ من المؤكد بأن الجيش لا يمكن أن يقف على الحياد ، مع ادراك قيادته للنتائج الخطيرة على أي فلتان امني او احتكاك بين شارعين. ولا بد في مواجهة كل الخيارات الممكنة ان تستلهم قيادة الجيش مواقفها واستراتيجيتها من الموقف الذي اعتمده اللواء فؤاد شهاب ابان ثورة 1958، ومن الموقف الذي اتخذه العماد ميشال سليمان في التعاطي مع الحشود القاصدة لساحة الشهداء يوم 14 اذار 2005.

في الخلاصة لا يمكن للحاكم الاستمرار في مواجهة شعبه ولا بد للعهد والحكومة من التجاوب مع المطالب الإصلاحية للشارع، مع ضرورة التحذير من الانسياق وراء أية مغامرة لفض الاعتصامات. حذار اللعب بالنار.