بيروت - لبنان

اخر الأخبار

8 كانون الثاني 2021 12:11ص لبنان ليس بحاجة لمجلس نقد

حجم الخط
يكثر الحديث هذه الايام عن فكرة انشاء مجلس نقد في لبنان. بالرغم من الحسنات النظرية لهذا المجلس، نرى أن انشائه غير ضروري خاصة في هذه المرحلة حيث يجب على الدولة اللبنانية أن تفعّل المؤسسات الموجودة ولا تخلق مؤسسات أخرى موازية.  سقوط العملات الاسيوية بنسب كبيرة في 1997 طرح مسائل الاستقرار النقدي وكيفية تحقيقه بأقل تكلفة ممكنة عبر مجالس نقدية.  سقوط هذه العملات بالسرعة التي حصل بها أفقد ثقة المجتمع الدولي بالمؤسسات الوطنية والعالمية المشرفة على الاقتصاد الاسيوي. يحصل اليوم أمر مماثل في لبنان حيث سقطت الليرة من 1500 للدولار الى ما يقارب الـ10 آلاف. لذا تعود الى الواجهة المجالس النقدية Currency Boards لتحقيق الاستقرار. هل تشكل هذه المجالس الحلول الفضلى لتجنب أزمات نقدية أو انها في الواقع معالجة سطحية لأزمات ظاهرها نقدي وقلبها اجتماعي واقتصادي ومالي وسياسي؟

يهدف المجلس النقدي الى تثبيت سعر صرف العملة الوطنية تجاه الدولار أو اليورو قانونا أي بالتصويت في مجلس النواب مما يجعل تعديل سعر الصرف صعبا جدا. يمكن لكل مواطن ان يحول عملته الوطنية الى العملة الدولية والعكس بالعكس ساعة يشاء بسعر الصرف الثابت. تكمن المشكلة في حصول المجلس النقدي على العملة الصعبة بالكميات الكافية وهذا ليس بديهيا كما تشير اليه تجربة الأرجنتين حيث سقط المجلس دفعة واحدة وانهار كل الاقتصاد.

في لبنان يثبت سعر الصرف اليوم المصرف المركزي وهذا يعطيه المرونة للتعديل اذا اقتضت الحاجة. هل لنا ثقة في مصرفنا المركزي؟ اذا كان الجواب سلبيا، فلماذا ستكون لنا ثقة في أي مجلس نقدي مستقبلي؟ ربما نجحت الفكرة في بلغاريا لكن عوامل النجاح أي خاصة الوجود في قلب أوروبا والانضباط الاداري والسياسي لا تتوافر في لبنان.

فكرة مجلس النقد نشرها أساسا الاستعمار البريطاني في بعض الدول الأفريقية والاسيوية بدأ بجزيرة موريشيوس في سنة 1849. سعر الصرف الثابت يقيد السلطات النقدية محددا من امكانية الاصدار النقدي الذي يؤدي الى هبوط سعر صرف العملة الوطنية اذا لم ترفع الفوائد. تثبيت سعر الصرف ينقل فعلا السلطة النقدية الى الدولة التي ثبت سعر الصرف مع عملتها. الهدف تحقيق الاستقرار النقدي وتقوية الثقة بالعملة الوطنية.

ما هي الضرورة لانشاء المجلس النقدي في لبنان ولماذا لا يقوم المصرف المركزي بهذا الدور؟ في الدول التي لا تعتبر مصارفها المركزية مستقلة قانونا أو واقعا عن السلطات السياسية، يصبح لانشاء مجلس نقدي فوائد كبرى لدعم الاستقرار النقدي والثقة به. السؤال هو: لماذا ننتظر من أي سلطة سياسية احترام استقلالية المجلس النقدي عندما لا تحترم استقلالية المصرف المركزي؟ طبقت المجالس النقدية في أكثر من 14 دولة كالأرجنتين وبلغاريا والبوسنيا وليتوانيا وكانت نسب النجاح والفشل مختلفة جدا.

غابت فكرة المجالس النقدية عن السمع لسنوات.  غابت لأنها نبعت من الاستعمار الغربي وما كان للاستقلال الحديث الا ليطيح بها. كما ان زيادة ثقة أو معرفة الدول المستقلة بادارة الشؤون النقدية الوطنية ساهمت في الاطاحة بهذه المجالس المتخصصة. فلما نعود اليها اليوم؟

أولا: وجد صندوق النقد الدولي أن متوسط مؤشر التضخم في الدول التي اعتمدت المجالس النقدية كان 4% أقل من التي اعتمدت فقط سعر الصرف الثابت. حجم تقلبات هذا المؤشر كان أقل بكثير في الدول المعتمدة للمجالس النقدية. يعود ذلك الى الحد من نسبة زيادة الكتلة النقدية.

ثانيا: نمت الدول المعتمدة للمجالس النقدية بنسب أعلى من الدول التي اعتمدت فقط على سعر صرف ثابت لعملتها الوطنية. كما ان سياساتها المالية كانت أكثر اعتدالا واتزانا.

من المساوئ الرئيسية لسياسة سعر الصرف الثابت مع مجالس نقدية أو بدونها هو عدم تأقلمه مع المتغيرات الاقتصادية الداخلية والعالمية وبالتالي يصبح أحيانا غير واقعي يحدث خللا نقديا وماليا يتفاقم مع الوقت. فهل اعتماد المجالس النقدية كفيل بتحقيق الاستقرار النقدي أم يمكن أن يتحقق ذلك عبر مصارف مركزية مستقلة؟

في الواقع استقلالية المصارف المركزية عن الدولة أو بالأحرى ضمن الدولة كفيلة بتأمين تنفيذ سياسة نقدية سليمة تنعكس ايجابا على سعر صرف العملة الوطنية. كما باستطاعة هذه المؤسسة ان تدير سياسة سعر الصرف دون ان تثبته بالضرورة تجنبا لمساوئ هذه السياسة. مصرف لبنان مستقل قانونا وممارسة عن الدولة، ويستطيع اعتماد السياسة النقدية التي يراها مفيدة. أما من ناحية الأزمة النقدية الآسيوية التي كانت وراء عودة المجالس النقدية الى الواجهة، فالجميع يعرف ان أساسها غير نقدي بل اجتماعي واقتصادي ومالي واداري.  لبنان ليس بحاجة الى مجلس نقدي بل الى اصلاحات حقيقية في كل جوانب الدولة والمؤسسات العامة والسياسات الاقتصادية:

أولا: اعتماد سياسات اقتصادية سليمة ومتجانسة، خصوصا سعر صرف واقعي تجاه الدولار الأميركي أو من الأفضل ترك الحرية لعمليات العرض والطلب ضمن هوامش مدروسة متحركة بانتظار اعتماد سياسة الصرف الحر. الدعم الاصطناعي للعملات لا يجدي على المدى المتوسط والبعيد. المطلوب أيضا اعتماد سياسة مالية محافظة تقلل من الهدر وتخفف من النفقات غير الضرورية. هنا يكمن الدور الرقابي الرئيسي لمؤسسات الاقراض الدولية.

ثانيا: تفعيل دور الاسواق المالية وخلق ادوات جديدة تناسب المستثمرين والمدخرين في اسعارها واستحقاقاتها ومردودها. فالسوق المالية المتكاملة هي التي توفر لكل القطاعات فرص التمويل بكلفة تتناسب مع امكانية الربح في الاسواق التنافسية.

ثالثا: اعتمد البناء الاقتصادي الآسيوي عموما على صناعات وقطاعات اختارتها الدولة لأسباب استراتيجية وسياسية، اعطتها كل الدعم الضروري ونجحت مؤقتا معه، لكن الاسواق الشفافة التنافسية تبقى الامتحان الحقيقي الصحيح لكل المؤسسات والشركات. أما لبنان، فاعتمد على الاقتصاد الحر منذ عقود ومشاكله لا تنبع من حرية الأسواق بل من سوء ادارة الدولة.

رابعا: على الدولة اللبنانية تشجيع انتاجية القطاعين الصناعي والزراعي والقيام بالاصلاح الاداري المنتظر. عليها اعطاء أهمية اكبر للقطاعات الاجتماعية من صحة وتعليم واسكان وتغذية وغيرها.

للمجالس النقدية حسنات كبيرة في ظروف معينة، الا أنه لا يمكنها أن تشكل الحل المناسب لأزمات متحركة كالواقع اللبناني حيث المرونة في غاية الأهمية. وجود مصارف مركزية مستقلة تعتمد سياسة صرف حر أو مراقب للعملة الوطنية بالاضافة الى المعالجة الجدية للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية يكفلان الى حد كبير عدم الوقوع في أزمات خطيرة كما يحصل اليوم في لبنان. السرعة في تطبيق الاصلاحات وحدها تنقذ لبنان وتجعله ينهض بقوة.