بيروت - لبنان

اخر الأخبار

28 آب 2020 12:02ص الزلزال والندرة المتوقعة

حجم الخط
تكلفة زلزال 4 آب ضخمة بكل المعايير وليست فقط مادية، انما هي معنوية ونفسية أيضاً.التكلفة على الأطفال لا تقيم حالياً لأنها كبيرة على المستقبل، خاصة اذا لم تتم معالجتهم اليوم ضمن العلوم النفسية الحديثة.  التكلفة كبيرة على الأطفال أنفسهم أولا، وثم على الأهل ثانيا والمجتمع ثالثا.  عدم وجود مؤسسات الدولة المدنية في الشارع لتعالج المصائب مدهش ومفزع، ولا يمكن تفسيره.  هذه البرودة الرسمية في التعاطي مع الأوجاع موجعة بحد ذاتها، حتى لا نقول تدعو الى المحاسبة ودرس الأسباب التي أوصلتنا الى هذه الحالة من الاهمال والجشع وغياب المسؤولية والشعور الوطني الحقيقي. نوعية المسؤولين السياسيين والاداريين تدعو الى العجب والحزن، ولا بد من اقتباس الدروس الهادئة للمستقبل.

العالم كله مخضوض اليوم وإن تكن الأسباب والوقائع مختلفة.  الاقتصادات الأساسية في العالم تعاني من الركود والبطالة والكورونا.  شراء الذهب بكميات كبيرة من المستهلكين والمستثمرين رفع سعره الى ما يقارب 2000$ للأونصة والى أكثر قريبا على ما يظهر.  الخوف والقلق لا يرحمان ويدفعان نحو المعدن الأصفر الآمن.  يقول «ستيغليتز» الاقتصادي اللامع أن هنالك مشكلة في تقييم مستوى المعيشة، اذ أن مؤشر الناتج المحلي المعتمد لا يصلح بسبب تجاهله المواضيع النوعية والنفسية.  يقول أن الكورونا أظهرت فشل الحكومات في الحفاظ على صحة مواطنيها، أي أن النظام العالمي المعتمد للتنمية سقط ولا بد من بديل.  لذا يجب ايجاد مؤشر جديد يأخذ بالاضافة الى التطور المادي معايير الصحة والبيئة والأمن والسعادة كما الفجوات الكبيرة في الدخل والثروات.

في لبنان، ما الذي يضمن لنا عدم وجود متفجرات مماثلة في مرافئ أو مرافق أخرى في المدن الكبيرة أو حتى الريف؟  اعادة الثقة من الشعب تجاه المسؤولين مطلوبة ولا يمكن أن تتم من دون نتائج تحقيق صحيحة وكاملة وسريعة.  حتى اعادة الترميم والبناء لا يمكن أن تتم بالشكل الجيد والكامل اذا كان المواطن قلقاً من التكرار.  فعلا نعيش في ظروف صعبة ودقيقة.  من ناحية أخرى، ما يفعله شابات وشباب لبنان والمنظمات المدنية على الأرض ومن مختلف المناطق يظهر هذا الشعور الوطني والانساني الذي نتغنى به دائما ولم نمارسه سابقا الا في ظروف حزن وقلق.  ما يفعله هؤلاء يدعو الى الأمل بالمستقبل ويخفف حماسة الرغبة في الهجرة في هذه الظروف الاقتصادية والمالية والكورونية الشديدة الخطورة والتعقيد.

ما الذي يفعله اللبناني اليوم؟  الترميم والبناء بتأنٍ لأن العديد من المواد غير متوافر بالاضافة الى الأسعار المرتفعة في الترابة مثلا بسبب الأسواق والضمائر أيضا.  اللبناني ينتظر المواد اذا كانت له القدرة على الترميم، وينتظر المساعدات من الدولة التي ستقدم لكن الوقت أساسي.  الوقت مهم ليس فقط لأن الخريف آتٍ بسرعة، بل لأن السكن لأشهر في منزل لا زجاج وأبواب فيه معرض دائما للسرقة ويزيد من يأس المواطن وصعوبة العيش.  حتى في المحلات والمكاتب، لا يمكن العمل من دون الحد الأدنى من الأمان الحياتي المفقود اليوم في العديد من أنحاء العاصمة.  خطورة ما حدث أن المواطن ضرب في بيته وفي ساعات الأمان، وليس هنالك ما يطمئن أو يخفف الأوجاع. الشعور أننا متروكون لأنفسنا مزعج ومضر، ويدعو الى اليأس والتشاؤم بل الخوف مما يأتي أو يمكن أن يأتي.

ما المطلوب اليوم من المجتمع اللبناني؟  طبعا استمرار الترميم والبناء ضمن الامكانيات البشرية والمادية المتاحة. لا شك أن المساعدات الآتية من الخارج هي في غاية الأهمية ولا بد من شكر المانحين، خاصة وأن درجة العطف والشعور معنا هي في غاية الوضوح والصدق والتواضع وحتى الكرم.  ما حصل لا يجب أن يؤخر عودة الحياة «الطبيعية» حتى خلال الترميم والبناء، أي يجب أن تبدأ السنة الدراسية عن قرب أو بعد وأن يلتزم المواطنون بالحذر تجاه الكورونا حتى نتجنب الاقفال التام القاتل اقتصاديا ومعنويا.  طبعا الأوضاع الحالية على الأرض تتناقض مع الاقفال الكوروني، والأفضلية هي للترميم وتخفيف الأوجاع مع التزام الحذر والانتباه وعدم المغامرة في الاجتماعيات التي لا معنى لها ولا جدوى منها.

من ناحية الحكومة، مستقيلة كانت أم فاعلة، لا بد من الاستمرار في القيام بالواجب وعدم خنق البلد بالتقشف.المطلوب الاسراع في تنفيذ الترميم مع التنبه الى الترشيد الانفاقي.  هذا التوازن في العمل يبقى في غاية الأهمية ويتطلب قدرة على التنفيذ يجب أن تتوافر في هذه الظروف.  تأجيل تسديد الرسوم والضرائب هو من الأولويات، بل الغاء بعضها لهذه السنة يتطلب شجاعة القرار ومساندة المجلس النيابي.لا شك أن تخفيف بعض الانفاق غير المجدي من استعراضات ومظاهر غير ذكية وغير ضرورية واحتفالات، يعوض جزئيا عن الضرائب والرسوم غير المحصلة. ادارة الكوارث والزلازل ممكنة وتتطلب كفاءات كبيرة غير متوافرة في الحياة العادية، لكنها تتطلب أكثر من أي شيء آخر قلوباً كبيرة وعقول واعية وفاعلة.

يجب أن لا ننسى في لبنان اليوم الاسواق الحرة التي أعطت خلال عقود طويلة نتائج ايجابية وسلبية.  أعطت الازدهار والنمو، لكن في نفس الوقت أنتجت فجوة كبيرة في الدخل والثروة.  أنتجت أيضا قطاعاً عاماً فاسداً وضعيفاً ساهم في إحداث العديد من الكوارث، وإن لم تكن في حجم زلزال بيروت.  يجب أن نتحلى كلبنانيين بالواقعية والوضوح لأن الظروف الاستثنائية تتطلب تفكيرا مناسبا وكفاءات استثنائية كالتي تحلى بها ديغول وتشرشل أيام الحرب.  يجب أن نتواضع في لبنان ولا ندعي معرفة كل شيء كما كان يحصل سابقا، ونتذكر ما قاله سقراط يوما «الانسان الحكيم هو الذي يعرف انه لا يعرف شيئا».  فلنكن سقراطيون بالكامل أو أقله جزئيا.

مع الزلزال ونتائجه الكبيرة، سنعيش في لبنان في فترة ندرة طويلة Scarcity أي أن ما نستطيع الحصول عليه أقل مما نرغب به وهذا مزعج.  لا يقتصر هذا الموضوع على الطعام وإنما على كل شيء من صحة وبيئة وتعليم وبنية تحتية وغيرها.  علم الاقتصاد يرتكز على «الندرة» والمناهج التعليمية تفسرها للأطفال منذ الصغر.  فترة الندرة ستكون طويلة ومن الممكن أن ينتج عنها اداء أفضل من قبل القطاعين العام والخاص اذا أحسنا التصرف.  في الواقع تسيطر الندرة على العقل وتوجهه نحو ما يمكن أن يزيد الكميات المتوافرة.  لا شك أن الندرة مزعجة وتسبب الغضب خاصة في مجتمع تعوَّد على البحبوحة ويحب المظاهر ومستعد للاستدانة للاستهلاك. حتى في الظروف العادية، الندرة في الطعام لأسباب صحية أو مادية تسبب القلق وتؤثر على الأعصاب قبل العقل.  لا يمكن للانسان العادي أن يحسن التفكير اذا لم يأكل كما يرغب في الكمية والنوعية.  الندرة دائما صعبة لكنها يمكن أن تكون فرصة للتغيير.

تؤثر الندرة على تصرفاتنا ويمكن أن ترفع من انتاجيتنا لأننا نحاول عندها ترشيد انفاقنا وتصرفاتنا وتخفيف الوقت المهدور على الأمور غير الأساسية.  جميعنا أنتج الكثير عندما وضعنا أمام تقشف الوقت deadline أي ضمن حدود وقتية واضحة.  في لبنان خاصة، نضيّع الكثير من الوقت اذا لم يكن لنا موعد محدد صارم لتقديم الانتاج.  تنتج الندرة قدرة كبيرة على الانتاج لا تظهر في الانسان في الظروف العادية.  في نفس الوقت التركيز على المواعيد الصارمة يمكن أن يضر بأمور أخرى مهمة، كأن يهمل الانسان عائلته لإنهاء كتاب أو عمل فتكون التكلفة باهظة جدا.  هذا غير منطقي لكنه واقعي ويحصل في أكثر المجتمعات تطورا، حيث الانتاج أهم من العائلة والاجتماعيات.  الزلزال حصل والأضرار كبيرة، ونتضرر أكثر معنويا ونفسيا اذا ركزنا على الخسائر فقط.  مجرد التفكير بالندرة والعمل الجدي على المواجهة يمكن أن ينقلنا الى ظروف أفضل لم تكن لتحصل لولا الزلزال.