بيروت - لبنان

اخر الأخبار

14 تشرين الأول 2020 12:02ص مخاطر تتهدَّد مفاوضات الناقورة

حجم الخط
يُشكّل موضوع الغاز والنفط المتوافر في المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان نقطة مركزية في الاجتماعات الوطنية، سواء على مستوى الدولة، أو النخب الاقتصادية أو على المستوى الشعبي، حيث يرى جميعهم في عائداته المالية مصدراً مضموناً لتغطية الدين العام والنهوض الاقتصادي، مع كل ما يستلزم ذلك من استثمارات في البنى التحتية وفي تطوير مختلف القطاعات الإنتاجية. كما يُشكّل الغاز والنفط وعقوده وعائداته المالية عنصر جذب وتجاذب بين عدد من القوى السياسية الرئيسية، وذلك على خلفية تطلعها إلى تحقيق مصالحها الخاصة من خلال ما يُمكن أن تجنيه من عقود التنقيب مع الشركات لدولية، أو من خلال العائدات المالية التي ستتحقق من خلال الاستثمارات الكبيرة القادمة.

لا أكتب كدخيل على موضوع الغاز والنفط، فقد بدأت اهتماماتي به منذ ما يزيد على عقد ونصف، حيث كتبت مجموعة من الدراسات والمقالات عنه، كما إنني شاركت في عدد من المؤتمرات الدولية في عدّة عواصم إقليمية ودولية، لذلك فإنني لن أخوض في موضوع التفاصيل الرقمية والاساسية عنه، كما إنني لن اتناول المواقف والسياسات المحيطة التي اتبعتها الدولة ومختلف القوى السياسية في مقاربتها، سواء لجهة تشريع البنى القانونية ووضع الأسس اللازمة للحفاظ على حقوق لبنان لجهة ترسيم الحدود البحرية مع الدول المجاورة، وأعني بها كُلاً من سوريا وقبرص وإسرائيل، والتي اتسمت جميعها بالعشوائية أو بالتقصير أو الشلل الكامل في ما يعود للترسيم مع سوريا.

بدأ لبنان ترسيم حدوده البحرية مع قبرص، والتي أظهرت لاحقاً وجود خطأ تقني في تحديد النقطة 23. ونصت الاتفاقية اللبنانية - القبرصية على ضرورة التشاور والتنسيق من قبل الدولتين قبل إبرام أية اتفاقية مع الدول المجاورة، وذلك من باب التحوّط للحفاظ على الحقوق، وفتح إمكانية تصحيح أية أخطاء في عملية الترسيم بينهما. لكن لم تحترم الحكومة القبرصية هذا البند من الاتفاقية، وذهبت إلى توقيع اتفاقية ترسيم حدودها مع إسرائيل دون اطلاع لبنان أو مراجعته، وأدى ذلك إلى ترسيم اسرائيل لحدودها مع لبنان من جانب واحد، حيث نتج عن الخطأ المرتكب في تحديد النقطة 23 أن ضمّت اسرائيل إلى منطقتها الاقتصادية الخالصة مساحة من المنطقة الاقتصادية اللبنانية تقدر بـ850 كليومتراً مربعاً.

وكان أن طلب لبنان من الأمم المتحدة التدخل للمساعدة على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل، وذلك على غرار ما تقوم به قوات «يونيفيل» من جهود ووساطة لترسيم الخط الأزرق على طول الحدود البرية. لكن رفضت الأمم المتحدة الطلب اللبناني متذرعة بأن القرار 1701 لا ينص على ذلك.

تلقفت الديبلوماسية الأميركية المصاعب التي يواجهها لبنان، حيث كلف السفير فوق العادة فريدريك هوف بالقيام بالجهود اللازمة بين لبنان واسرائيل من أجل تأمين استعادة لبنان لحقوقه المسلوبة، ويبدو أن  الدافع الأميركي الأساسي قد جاء على خلفية الحؤول من تحوّل النزاع الحدودي البحري إلى مواجهة عسكرية جديدة بين حزب الله وإسرائيل. دامت هذه المفاوضات بين فريدريك هوف مع الجانبين الإسرائيلي واللبناني من عام 2011 إلى عام 2013، وكادت ان تثمر على اتفاق عرف بخط «هوف» يحصل لبنان بموجبه على ما يقارب 500 كيلومتر مربع، وتحصل إسرائيل على 350 كيلومتر مربع. لكن لم ينفذ هذا الحل لبنانياً بسبب غياب القرار الرسمي الحاسم، في ظل تجاذب قوي ما بين رئيس المجلس  النيابي نبيه برّي ومدير الطاقة جبران باسيل، وكان طرفا التفاوض مع السفير هوف من الجانب اللبناني اللواء عبدالرحمن شحيتلي، ممثّل الدولة اللبنانية في اجتماعات الناقورة، ومن الجانب الإسرائيلي السفير أوديد عيران الذي كان مسؤولاً عن التفاوض حول قطاع النفط والغاز.

تعقد اليوم في الناقورة الجلسة الأولى للمفاوضات (غير المباشرة) اللبنانية - الإسرائيلية برعاية الأمم المتحدة وبحضور مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر، وكالعادة سيعبّر المشاركون عن آمالهم في النجاح بالمهمة في ترسيم الحدود وتخطي كل العراقيل التقنية والمطبات السياسية، والناتجة في أغلب الأحيان عن أجواء الشك ونظرية المؤامرة التي ستسيطر على سلوكية الطرف اللبناني الذي يدير المفاوضات عن بعد، وأقصد هنا حزب الله والذي يلتزم الصمت بعد إعلان الرئيس برّي عن وجود «إتفاق  اطار» تنطلق منه المفاوضات، لكنه دون أي يُحدّد ماهية هذا الإطار، أو الأسس التقنية المستعملة في ترسيم الحدود، والتي شكلت في الأساس العقدة الكأداء  في حل الخلاف. يبدو لي بأن الفريق اللبناني المشارك في المفاوضات لا يملك كل المعلومات والخبرات التي اكتسبها الوفد اللبناني القديم برئاسة اللواء عبدالرحمن الشحيتلي الذي قضى أكثر من سنتين في محادثات الحدود البحرية، بالإضافة إلى ست سنوات ونصف في ترسيم الخط الأزرق من خلال تمثيله للدولة اللبنانية في اجتماعات الناقورة، وسُجل بأنه لم يسبق للعضوين المدنيين شباط ومسيحي ان شاركا في مفاوضات سابقة.

اللافت والمؤسف في نفس الوقت انه لم يحصل أي اتصال من قبل القصر الجمهوري أو قيادة الجيش أو الرئيس الجديد للوفد اللواء الطيار بسّام ياسين برئيس الوفد القديم اللواء شحيتلي لتقديم ايجاز عن الموضوع يلخص فيه معلوماته وخبرته السابقة أو الطلب إليه ان يكون عضواً اساسياً في الفريق الداعم للفريق المفاوض. بالمقارنة مع هذا التقصير فقد علمت شخصياً أن كبير المستشارين في البيت الأبيض جاريد كوشنير قد طلب من السفير هوف تقديم ايجاز عن عمله ومعلوماته في المفاوضات وتسليم الخارجية جميع الأوراق والمعلومات العائدة لملف التفاوض بين لبنان وإسرائيل، قبل الدخول في شرح وجوه التقصير الأوسع للسلطة اللبنانية في التعاطي مع هذا الملف الاستراتيجي والوطني الكبير في غياب شبه كامل للجدية اللازمة وانعدام روح المسؤولية، التي يفترض ان تتحلى بها الطبقة الحاكمة لا بدّ من إبداء جملة ملاحظات ابرزها:

أولاً، تستعجل إسرائيل اجراء المفاوضات لحل الخلاف القائم، لأنها تدرك تماماً وجود كميات كبيرة من الغاز في المنطقة الحدودية مع لبنان، وقرأت قبل سنوات تصريحاً لمسؤول إسرائيلي في إحدى الندوات الدولية انه قال بأن الشركات المتعاقدة مع إسرائيل تلمح في تسريع الحل مع لبنان لكي تبدأ عمليات المسح والتنقيب في المنطقة الحدودية.

ثانياً، لا بدّ من إبداء خشية من المقاربة التي سيعتمدها الوفد اللبناني لطرح رؤيته لترسيم الحدود من خلال المطالبة باعتماد الخط الوسطي دون التقيّد والأخذ بعين الاعتبار بصورة واقعية للاتجاه العام للشاطئ، وضمن زاوية قد تدفع بالوفد الإسرائيلي إلى وقف المفاوضات، ولا بدّ من مفاوضات تقنية كهذه للتعامل بمرونة وحذر لتحصيل أكبر قدر ممكن من حقوق لبنان مع الحرص على عدم نسف العملية التفاوضية برعاية الأمم المتحدة والوسيط الأميركي.

ثالثاً، لا بدّ من التساؤل عن مدى جدية الجانب الأميركي للعب دور الوسيط النزيه، خصوصاً في حال لجوء لبنان إلى المماطلة وذلك بسبب غياب إرادة القرار، أي بسبب ضغوط يمارسها حزب الله أو أطراف إقليمية، والسؤال هل يكتفي الأميركي بصورة جلسة الافتتاح ليوظفها لصالح الرئيس ترامب في الانتخابات؟

رابعاً، يبدو بأنه كان من الطبيعي ان تنتقل عملية الاشراف والقرار في المفاوضات إلى قصر بعبدا وذلك احتراماً ومراعاة للمادة 52 من الدستور حيث يعود لرئيس الجمهورية صلاحية قيادة المفاوضات في المعاهدات الدولية وبالتنسيق مع رئيس الوزراء، لكن هذا لا يمنع من التساؤل عن الأسباب التي دفعت الرئيس برّي للتخلي بعد سنوات عديدة عن الإمساك بهذا الملف الوطني الهام والكبير؟

يؤمل ان تصل المفاوضات إلى نهاياتها السعيدة، وأن يحصل لبنان على حقوقه في الغاز والنفط، لكن فسحة الأمل هذه لن تُبدّد شكوكنا من عدم قدرة السلطة اللبنانية على التعاطي بشكل حاسم مع المقاربات المطلوبة للتوصل إلى حل يؤمن أكبر مكسب ممكن للبنان، فلبنان لا يملك في الظروف الراهنة قراره السيادي المستقل، كما انه لا يملك وحدة المؤسسات لصنع القرار للبت في الشؤون الداخلية الكبيرة كقضية الغاز والنفط مع ما يترتب على ذلك من مسؤوليات داخلياً ودولياً.

لا يقتصر غياب العقلانية والمسؤولية لدى الدولة اللبنانية على اتخاذ الخطوات العملية اللازمة في اتجاه المسح والتنقيب وحفر الآبار، حيث بات لبنان على بعد ما يقارب فترة عقد ونصف خلف إسرائيل ومصر، بل يتجاوز الأمر ذلك لإهمال بقية عناصر الاستثمار المطلوبة، إن كان لجهة عقد شراكات لتسييل الغاز أو لنقله إلى الأسواق المرجحة مثل أوروبا أو باتجاه تركيا واليونان. لقدغاب لبنان عن كل الجهود الاقيلمية المبذولة لتطوير وسائل النقل والاستثمار، حيث انه قد عزل نفسه عن كل الشراكات الاقيلمية في عملية تسويق الغاز نحو أوروبا ومن أبرز هذه المجموعات الاقليمية: أنبوب الغاز اليوناني والذي يضم قبرص وإسرائيل، وكارتل الدول السبع برئاسة مصر، والذي يضم أيضاً إيطاليا الى جانب ست دول من شرقي المتوسط، في نفس السباق تعمل تركيا وروسيا على عقد اتفاقيات مع ليبيا ومع دول شرق اوسطية لتوسيع نشاطاتها في مجال التنقيب والتسويق.

في النهاية يبقى لبنان بأمسّ الحاجة لتشكيل حكومة قادرة على انتشاله من الأزمة الاقتصادية والمالية الراهنة. وقادرة على رعاية المفاوضات مع إسرائيل والعمل على التوصل الى حل للمعضلة، وبما يفتح المجال امام عملية التنقيب ووضع استراتيجية واضحة للاستثمار والتسويق من خلال عقد الشراكات اللازمة مع دول المنطقة في موضوعي النقل والتسييل.

لا بدّ من الاستفادة من الرعاية الدولية والأميركية للتوصل إلى اتفاقية تحفظ حقوق لبنان والتحوّط لإمكانية حزب الله للانقلاب على أي اتفاق لأسباب ترتبط بمصالح حلفائه الاقليميين أو بحساباته الداخلية.