كتب محرر التحقيقات:
ما بين إعادة إنشاء خط سكك الحديد، الذي يربط مدينة طرابلس بمنطقة العبودية، على الحدود السورية، وإعادة ترميم محطة القطار في الميناء على السكّة أخيراً وتحويلها إلى متحفٍ وواحة للثقافة والفنون بما فيها برج الأمير «برسباي»، وترميم كليّة الجامع المعلّق، ودار الأرامل الخانقاه في الحدادين، وتأهيل واجهات الأبنية المحيطة بها، بدعم وتمويل مديرية الممتلكات الثقافية والمتاحف في وزارة الثقافة التركية، ظهر حدث تراثي جديد، تمثل بالكشف عن موقع أثري، في قلب عاصمة الشمال طرابلس، «نهر أبو علي» يُزيح الستار، عن أحد جسوره التاريخيّة الثلاثة، بعد ٦٠ عاماً من طمره.
تدمري
ضمن هذا السياق، ولمزيد من الإستيضاح التقت «اللواء» عضو مجلس بلدية طرابلس، ورئيس لجنة الآثار والتراث فيها، البروفسور المهندس خالد عمر تدمري، يقول: «أثناء قيام المتعهد المكلّف، من قبل مجلس الإنماء والإعمار، بحفر الطريق الغربية لكورنيش «نهر أبو علي»، عند تقاطعه مع شارع الزاهرية الأساسي، بغية مدّ شبكة المجارير الجديدة، ظهرت تحت الطريق قنطرة حجرية واسعة، معقودة من الداخل، ومستندة على حائط عريض مدعّم، وممتد لعدة أمتار مرصوص بحجارة شبه متساوية جميلة المظهر.
وقد ذهبت التحليلات تارةً إلى أنه نفق، أو ممر مسقوف تحت الأرض، يصل إلى قلعة طرابلس! وتارةً أخرى إلى أنها قناة مياه معقودة. إلا أن الحقيقة عكس ذلك، وبعد التفحص للموقع والعودة إلى الصور النادرة والوثائق التاريخية والخرائط القديمة، تبيّن أن القنطرة المعقودة والحائط القائمة عليه، تشكّل «جسر الترامواي العثمانيّ» الذي كان يصل ضفتي النهر، بين شارع الزاهرية ومدخل شارع سوريا، وهو الجسر التاريخي الثالث، الذي كان يعبر فوق مجرى «نهر أبو علي»، بعد جسري السويقة واللحامين، والذي استحدث نهاية القرن التاسع عشر، وبني خصّيصاً ليمرّ عليه خط عربات «الترامواي» الحديدي، في عهد السلطان عبد الحميد الثاني».
يضيف تدمري: «إن الدولة العثمانية، وبغية تنشيط الحركة التجارية، في مدينة طرابلس ومرفأها، عمدت إلى مدّ سكة حديدية، لتشغيل عربات «ترامواي»، من طابقين (كانت تجرّها البغال)، تصل بين بوّابة الميناء، حيث المرفأ القديم، (ساحة الشراع حالياً) ومدخل شارع سوريا، حيث شقّ هذا الشارع وتم تعبيده بحجارة «البازلت» المرصوفة، وامتد حتى مدينتي حمص وحماه، وصولاً إلى حلب في الداخل السوري (من هنا تسميته بشارع سوريا)، وتم تشغيل عربات «ديليجانس» عليه، لإيصال الركاب والبضائع بين طرابلس والمدن السورية، وذلك عبر تأسيس شركة مساهمة لإدارتها، وقد اشترى السلطان عبد الحميد، بشخصه أسهماً فيها لدعم انطلاقة المشروع.
كما تظهر الوثائق المحفوظة في أرشيف البنك العثماني في إسطنبول».
يقول:» إن خط الترامواي الحديدي الطرابلسي، كان أول مشروع سكك حديدية في كل بلاد الشام، باعتراف جريدة «غرافيك» البريطانية (قبل مد سكك القطار الحديدية بثلاثين عاماً تقريباً) التي أفردت مقالاً مفصلاً، حول هذا المشروع وأهميته، والشركة الإنكليزية التي إلتزمت تنفيذه من قبل الدولة العثمانية، مع رسومات توضيحية، وذلك في عددها الصادر في حزيران عام ١٨٨٠».
الحركة التجارية
وعن الحركة التجارية يومها، يقول تدمري: «إن خط «الترامواي»، وتعبيد الطريق بين باب التبانة والداخل السوري، وتشغيل عربات الترامواي و«الديليجانس» عليهما، نشطت الحركة التجارية في المدينة بشكل غير مسبوق، بحيث تحولت طرابلس إلى مرفأ بلاد الشام، وبخاصة لمدن حلب وحمص ومنطقة عكار، تصدر عبرها كل المنتجات الزراعية والصناعات الحرفية إلى قارة أوروبا وبالعكس. وبفضل هذه الحركة الناشطة، تحولت منطقة باب التبانة، إلى مركز تجاري ضخم يضم أكثر من أربعين خاناً، (كما تذكر سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس)، مخصصة لتجهيز وتوضيب وتصدير واستيراد مختلف البضائع والمنتوجات على اختلافها (من هنا تسميات خان البطيخ، وخان الأرز، وخان العدس، وسوق القمح)، وهذا ما جعل باب التبانة، تلقب لاحقاً بسوق الذهب لوفرة الربح والتجارة الناشطة في متاجرها».
المعالم الأثرية
ورداً على سؤال، حول أهمية «نهر أبو علي» التراثية، كشف تدمري: «بعد ستين عاماً، ومع إعادة إكتشاف «جسر الترامواي» الذي «نفد» من أعمال الهدم، التي شملها مشروع تقويم مجرى «نهر أبو علي»، بعد طوفانه سنة ١٩٥٨، هذا المشروع الكارثي، الذي أباح هدم أقدم وأبرز المعالم الأثرية، في وسط المدينة المملوكية، يتّضح أن هذا الجسر العثماني، أُنقذ من الهدم لأن مجرى النهر الجديد، مرّ بمحاذاته بعد أن كان يمر أسفله، حيث تم تحويل مساره القديم لجهة الشرق أكثر، فاستثني الجسر من الهدم بأعجوبة، وتم الإكتفاء بطمره تحت أديم الكورنيش الجديد، ومن موقعه واستقامته يلاحظ أن اتجاهه مكمّل للطريق القادمة من الزاهرية، والطريق المتصلة حتى يومنا مع شارع سوريا، وفي حال استكمال كشف مسطّح القنطرة – الجسر، يمكن أن يتم العثور على خط السكة الحديدية، التي كان يحملها وتعبر النهر خلاله».
ورداً على سؤال، حول الإزدهار التجاري لمدينة طرابلس التاريخية، أوضح تدمري: «إن المشروع التخريبي طال في حينه، سقف ٣٠٠ متر من مجرى النهر، وبناء مسطبة باطونية تحوّل سطحها مرتعاً لمختلف أشكال الفوضى والتعديات، وأسفلها لمكان مظلم تعشعش فيه النفايات والموبقات، وهذا المعلم التاريخي الجديد، يُحيي ذاكرة «نهر أبو علي» التاريخيّة، ويرمز إلى حقبة الازدهار التجاري والحضاري، لمنطقتيّ باب التبانة والزاهرية وطرابلس. وعليه نطالب مجلس الإنماء والإعمار، بوضع خطة ضمن مشروع، «إحياء إرث طرابلس الثقافي» القائم حالياً وتعديله، بشكل يؤدي إلى إظهار هذا الجسر التاريخي، القابل للاستخدام مجدداً نظراً لمتانته ولوساعته، وعرض التقاطع فوقه، والذي كان يتسع لمرور عربات «الترامواي»، في خطين ذهاباً وإياباً، فضلاً إلى المارة من المشاة، وتعويض المدينة عن خساراتها السابقة، بإبرازه من جديد، لأن ذاكرة «نهر أبو علي» ترتبط بالمدينة».