بيروت - لبنان

16 أيلول 2020 12:01ص طرابلس بين مطرقة الفقر وسندان «كورونا»

حجم الخط
د. فادي دقناش*
تُطلُّ مدينة طرابلس على ساحل البحر الأبيض المتوسّط، وتُعتبَر العاصمة الاقتصاديّة لشمال لبنان وثاني أكبر مُدنه، كما تحوي «كنوزاً» تاريخيّة تجعلها متحفاً عمرانيّاً حيّاً يُحاكي دَورها التاريخي على مرّ العصور (ثاني أكبر مدينة «مملوكيّة» بعد القاهرة)؛ لكنْ على الرّغم من ذلك، بقيت هذه المدينة الأكثر فقراً وبطالةً وحرماناً إنمائيّاً واقتصاديّاً بين المُدن اللّبنانيّة، كما شكَّل العامل الديموغرافيّ عنصرَ ضغْطٍ إضافيّ وصلَ حدّ الانفجار السكّاني (بلغ عدد قاطنيها نحو 800 ألف نسمة) بسبب النزوح إليها من الضواحي، ناهيك باستقرار عددٍ لا بأس به من النازحين السوريّين فيها، ما أدّى إلى استنزاف مَوارِدها بشكلٍ كبير.

ارتفعت نسبة البطالة في طرابلس إلى مستوياتٍ قياسيّة، طاولت أكثر من 50٪ من سكّانها الذين باتوا يعيشون تحت خطّ الفقر، وفقاً لأرقام المُنظّمات الدوليّة. وهكذا أصبحت العاصمة الثانية مُحاصَرة بين مِطرقة الفقر كواقع معيش وسِندان وباء كورونا كواقع مُستجدّ، وكلاهما يُشكّلان خطراً وجوديّاً على المجتمع، فأين أولويّة المُجابَهة بين الخطرَين؟!

إنَّ انتشار جائحة «كورونا» على مساحة البلاد، دفعَ الحكومة اللّبنانيّة إلى إصدار مجموعة تعاميم، تضمَّنت إعلان حالة «التعبئة العامّة» منذ 15 آذار (مارس) المُنصرِم، طلبت بموجبها من الناس مُلازَمة منازلهم طواعيّة تحت شِعار «خلّيك بالبيت»، تجنُّباً للاحتكاك والتواصُل المباشر في ما بينهم. وعلى الرّغم من هذا التشدُّد الحكومي واستنفار المؤسّسات الصحيّة والإعلاميّة (المرئيّة والمَسموعة)، ناهيك بحملات التوعية على مَواقِع التواصل الاجتماعي، لم يلتزم بـهذه التعبئة وشروطها غالبيّة سكّان المدينة، وتحديداً في المناطق الأكثر فقراً وحرماناً فيها

يُظهر عدم الالتزام العامّ هذا أنَّه لا يُمكن الفصل بين الأزمة الصحيّة المُستجدَّة التي تُمثّلها «كورونا»، والأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي تعاني منها المدينة منذ عقود طويلة؛ فالمناعة الداخليّة ضروريّة لتجنُّب الانتشار «الكوروني»، والصمود أمامه بحاجة إلى مُقوّمات؛ ويبدو أنَّ مدينة طرابلس تفتقر إلى الحدّ الأدنى من المناعة اللّازمة للصمود على المستويات كافّة:

أ- مناعة معرفيّة ثقافيّة: 

لا شكّ أنَّ الوعي بخطر الجائحة المُستجدّة يُشكّل بدايةَ التصدّي لها؛ فقد تلازَم مع الفقر الذي تعاني منه المدينة، تراجُعٌ كبير في نِسب المُتعلّمين، وزيادة قياسيّة في نِسب التسرُّب المدرسي، مع انتشار ظاهرة التسوُّل وعمالة الأطفال بشكلٍ مقلق. كما أنَّ الحجْر المنزلي دفعَ السلطات التربويّة اللّبنانيّة إلى تبنّي طريقة التعليم عن بُعد، كحلٍّ مؤقّت لاستمرار العام الدراسي بالاعتماد على شبكة الإنترنت، لكنّ ذلك كان مانِعاً لشريحة كبيرة من مُتابَعة هذا النَّوع من التعليم، فكيف يُمكن لمَن لا يمتلك ثمن «ربطة» خبز أن يُسدِّد فاتورة اتّصالات أو أن يشتري أجهزة تواصُل لجميع أبنائه، كالحاسوب والهاتف الذكي وأخواته؟ ناهيك بالبنية التحتيّة غير المُهيَّأة لهذا النَّوع من التعليم على المستوى التقني والبشري (في الاتّجاهَين المُرسِل والمُتلقّي).

من جهة أخرى، نجد أنَّ شريحة كبيرة من السكّان لم تأخذ المَخاطِر «الكورونيّة» على قدرٍ من المسؤوليّة، فعلى قاعدة «لن يُصيبنا إلّا ما كَتَبَ الله لنا»، لا يزال العديد من أهل المدينة يستَخِفُّون بالجائحة، تجدهم يتجوَّلون جماعات، ويتسامرون ويتجاذبون أطراف الحديث جماعات، فلا التزام بالحجْر المنزلي، تحديداً في أحزمة البؤس والفقر (منطقة باب الرمل، الأسواق القديمة، التبّانة، القبّة، حارة التنك...) وتستمرّ الأعمال والأشغال وسائر العادات، وكأنَّ المدينة في كَوكبٍ آخر.

ب- مَناعة صحيّة:

ينتشر في المدينة عددٌ من المؤسّسات الصحيّة الخاصّة ومستشفىً حكومي واحد يُسمّى «مستشفى الفقراء»، في منطقة القبّة المُكتظَّة بالسكّان وبالنازحين السوريّين، إلّا أنَّ هذا المستشفى الحكومي، بعديده وعدَّته، غير قادر على استيعاب الكَمّ الهائل من أهل المدينة (يتلقّى أكثر من 50% من السكّان علاجهم في المستشفى الحكومي أو المؤسّسات الصحيّة الرديفة أو المُتعاقِدة مع وزارة الصحّة) الذين لا يستفيدون بمعظمهم من أيّ تقديمات صحيّة. فالغالبيّة الساحقة منهم «مياومون» - ومَن لا يعمل لا يَجد قوت يومه - لذلك لم يتغيّر نمط الحياة في طرابلس بخلاف ما حدث في سائر المُدن في المناطق اللّبنانيّة الأخرى؛ فالأهالي يُتابعون حياتهم بشكلٍ أو بآخر وكأنَّ شيئاً لم يكُن.

بيَّنت الإحصاءات الرسميّة أنَّ الإصابات في مدينة طرابلس لغاية نهاية شهر نيسان (إبريل) الفائت كانت محدودة نسبيّاً وأقلّ ممّا سجّلته المناطق اللّبنانيّة الأخرى (14 من أصل 717 إصابة). ويبدو أنَّ هذا الأمر أدّى إلى مزيدٍ من الاستهتار وعدم التقيُّد بإجراءات «التعبئة العامّة» وتعليماتها، ما يُهيّىء الفُرصة لانتشارٍ «كورونيّ» غادِر. ويَرى مختصّون أنَّ عدد الإصابات المتواضعة لا يعني خلوّ المدينة من هذه الجائحة، فالـ «فيروس» يُمكِنه التخفّي لأكثر من عشرين يوماً، ناهيك بعدم قدرة الحكومة على إجراء مسْحٍ سكّاني صحّي شامل للتحقُّق من العدد الفعليّ للمصابين.

على المستوى النفسي، لا بدّ من الإشارة إلى مسألتَي التباعُد الجسدي والتباعُد الاجتماعي، فقد أثبتت الدراسات العِلميّة أنَّ التباعُد الجسدي ضروري لتلافي العدوى أو تفشّي الوباء، بينما نجد أنَّ التباعُد الاجتماعي في الأحياء الشعبيّة بعامّة غير مرغوب فيه، بل مُستهجَن، كون البنية الاجتماعيّة في تلكم الأحياء لا تزال بنية تقليديّة، تضع العائلة والجيرة والرفاق في منزلة مُرتفعة، وبالتالي فإنَّ التعبير عن الوِدّ والاحترام والامتنان والاشتياق، لا بدَّ أن يمرَّ من خلال المُصافَحة الحارّة أو العناق أو التقبيل، والأمر نفسه ينطبق في الأحزان والأفراح وإن كانت نِسبته حاليّاً أقلّ بكثير من السابق. 

ج- مناعة اقتصاديّة - اجتماعيّة: 

إنَّ الواقع الاقتصادي في المدينة سيّىء ومُترهّل منذ عقود، وقد ظهر ذلك جليّاً مع «انتفاضة» 17 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2019، وترسَّخ بوضوح في نهاية شهر شباط (فبراير) المُنصرِم عندما بدأت الحالات المَرضيّة بالانتشار والظهور إلى العَلن، يُضاف إلى ذلك انهيار سعر صرْف اللّيرة اللّبنانيّة مقابل الدولار الأميركي، وهو ارتفاع تاريخي (من 1515 إلى ما يزيد على4000 ليرة لبنانيّة للدولار الواحد)، الأمر الذي أدّى إلى تراجُع العجلة الاقتصاديّة، وإفلاس مؤسّسات تجاريّة، وبالتالي فقدان عددٍ كبير من أبناء طرابلس لوظائفهم وأشغالهم، الذين أصبحوا غير قادرين على شراء حاجاتهم الغذائيّة الضروريّة للاستمرار في العَيش بكرامة. وهذا ما أدّى بدوره إلى انهيار ما تبقّى من الطبقة الوسطى التي اصطفَّت بجانب الطبقات الأكثر فقراً في المدينة، ومُبادرة السلطة المحليّة المُمثَّلة ببلديّة طرابلس إلى إعلان حالة طوارئ اقتصاديّة - اجتماعيّة، مُستنفِرةً العديد من منظّمات المُجتمع المدني (جمعيّات، ومنظّمات غير حكوميّة، ومُبادرات فرديّة) للمُساعَدة والتعاضُد الاجتماعي. وإزاء هذا الواقع الاقتصادي المُتردّي، وكون معظم أهل المدينة يعملون كـ «مُياومين» - كما سبق وذكرنا - لم تستطع الأجهزة الرسميّة والمحليّة إقفال الأسواق الشعبيّة، لأنَّ ذلك سيؤدّي إلى موت الناس جوعاً.

وعلى الرّغم من مُبادَرة البلديّة بتقديم مُساعدات ماليّة للأُسر الأكثر فقراً في المدينة، والتي بلغ مجموعها 3 مليارات ليرة لبنانيّة (عبارة عن قسائم شرائيّة لمَوادّ غذائيّة قيمة كلّ قسيمة منها 75 ألف ليرة لبنانيّة)، إلّا أن هذا لم يكُن كافياً في ظلّ الغلاء الفاحش نتيجة الأزمة الاقتصاديّة القديمة – الجديدة، ما أدّى إلى نتائج سلبيّة تُرجِمَت ازدحاماً أمام مَتاجِر المَوادّ الغذائيّة التي تصرف هذه القسائم.

هنا تَجدر الإشارة أيضاً إلى أنَّ الأزمة الماليّة التي عصفت بالبلاد بعامّة، مَنَعَت الناس من التصرُّف بودائعهم الماليّة، فضلاً عن تقنين دوام العمل في المَصارِف، الأمر الذي أدّى إلى اكتظاظٍ غير طبيعي أمام مواقع الصرف الآلي ATM الذي من شأنه أن يسمح بتمدُّد «الفيروس» وانتشاره بين الناس. أمّا التجّار وأصحاب المَصالِح، فتجدهم يوصدون أبواب محلّاتهم ومَتاجرهم الخارجيّة تَقيُّداً بـ «التعبئة العامّة» شكلاً، لكنَّ عمليّات البيع والشراء وتقديم الخدمات قائمة في الداخل، كما أنَّ بعض مَتاجِر الألبسة تحوَّلت بلحظةٍ خاطِفة إلى مَتاجِر لبَيْع الموادّ الغذائيّة، كي يتمكّن أصحابها من إعالة عائلاتهم وتسديد الرواتب لعمّالهم وموظّفيهم.

إنّ فقْدان المَناعة بمستوياتها الثلاثة، جعلَ مدينة طرابلس «صندوق رسائل» سياسيّة، تُرجِمت سابقاً بـ 21 جَولة قتاليّة بين أبناء أفقر منطقتَين في المدينة (التبّانة وجبل محسن) اتَّخذت طابَعاً «عصبيّاً» مذهبيّاً، والأمر نفسه يتكرَّر الآن، وإنْ اختلف بالشكل منذ «الانتفاضة» الأخيرة، حيث نزل إلى الساحات عددٌ لا بأس به من المُحتجّين على سياسة الجوع والفقر التي انتهجها زعماء «العصبيّات» الطائفيّة، فخرقوا إجراءات «التعبئة العامّة» - ليلاً ونهاراً - من دون أن يتقيَّدوا بالمَسافة الآمنة أو حتّى بوضْع الكمّامة الطبيّة والقفّازات الواقية، بحيث تأتي ربطة الخبز كأولويّة عليهما. 

إزاء هذا الواقع الأليم، تقبع مدينة طرابلس بين مِطرقة الجهل بخطر هذا «الفيروس» المُستجِدّ، وسِندان الفقر والحرمان، فتبدو المدينة كقنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أيّ لحظة. فوجهة النظر الرسميّة والعِلميّة تقول إنّ الإهمال في التعامُل مع الأوبئة بسبب الجهل والفقر وتفسير المشكلة بغيبيّة أو لاعقلانيّة، يجعل الخروج من الأزمة أصعب وتكون التكلفة الإنسانيّة أعلى؛ لكنَّ وجهة النّظر المُجتمعيّة تبدو أقوى عملانيّاً، وتتَّخذ وضعيّة مُمانعة دفاعيّة - واعية أحياناً ولا واعية أحياناً أخرى - تجاه أيّ مشكلة وافدة أو طارئة، فتُعَبّر بطريقتها سلوكاً ومُمارَسةً، خَوفاً من شبح الفقر والجوع، كونهما «العدوّ الأكبر والأخطر»؛ وعلى وقع أغنية زياد الرحباني يتوضَّح المشهد بصورة جليّة: «أنا مشْ كافِر، بسْ الجوع كافِر».



* باحث من لبنان في عِلم اجتماع المَعرفة