لم يكن دخول الرئيس
الأميركيّ دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، مجرّد انتقال ديموقراطيّ للسلطة،
اعتادته واشنطن مع كلّ تسليم وتسلّم لرئيس دولة يوصف بأنّه الشخص الأكثر نفوذًا في
العالم. فبمجرد دخوله إلى المعترك العالميّ شكّل ترامب مادة دسمة للصحافة
العالميّة، وأثار جولات من الجدل وموجات من الاستنكار، عند كلّ قرار مفصليّ يتّخذه
الرئيس الملياردير، ما دفع بالبعض إلى اعتباره "رئيسًا لا مثيل له"،
فيما عمد البعض الآخر إلى وصفه بـ "المجنون".
إلّا أنّ أبرز المواقف
والقرارات التي تسبّبت بانقسام عاموديّ في ردّات الفعل، فتعلّقت معظمها بـ
"إسرائيل"، والدعم المطلق الذي لاقته سلطاتها في عهد الرئيس الأميركيّ
المثير للجدل. تزامنًا مع اكتساب التيارات المسيحيّة المحافظة نفوذًا كبيرًا في البيت
الأبيض، وصل إلى حدّ عقد بعض هذه التيارات جلسة أسبوعيّة لأداء "الصلاة المسيحيّة"
مع الرئيس ترامب داخل البيت الأبيض، بحسب وسائل إعلام أمريكيّة.
هذا الترابط الوثيق بين دعم
الرئيس الأميركيّ المطلق لـ "إسرائيل"، وتصاعد نفوذ "الإنجيليّين
الجدد" في البيت الأبيض، يُفسّر ربّما الصورة التي طُبعت يوم باع دونالد
ترامب "صفقة القرن" إلى رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، بحضور عدد
من أكثر القساوسة الإنجيليّين الجدد نفوذًا.
هذا الدعم المطلق، والأسباب
وراء سعي ترامب الحثيث فيما يتعلق بملف القدس، ابتداءً من إعلانها عاصمة للكيان
الإسرائيليّ، وانتهاءً بالإعلان عن "صفقة القرن"، أرجعتها العديد من وسائل
الإعلام، إلى خشية الرئيس الأميركيّ من فقدان قاعدة إنجيليّة داعمة لإسرائيل يعوّل
عليها.
فترامب يعلم
تمامًا أنّ خسارة تأييد هذه الطائفةتعني خسارة فترة الرئاسة الثانية، لذلك
سعى جاهدًا منذ بداية انتخابه، إلى اعتماد قرارات تزيد من تأييد الإنجيليّين الجدد
له. فكان أكثر تصميمًا على قرار نقل السفارة الأميركيّة من تل أبيب إلى القدس
المحتلة، على الرغم من خطورة هذه الخطوة، لكنّها كشفت أنّ أكثر من 80٪ من الإنجيليّين
الجدد راضون عن أداء ترامب وحكومته.
وباعتبارها كتلة تصويتيّة رئيسية
في الولايات المتحدة، وتتمتع بعلاقات قويّة مع إسرائيل، حرص ترامب على تحقيق أهداف
الإنجيليين الجدد على الرغم من انشغاله بمعارك سياسيّة أخرى.
هنا، تبرز التساؤلات
المتنوعة حول ماهيّة العلاقة بين الإنجيليّين الجدد واليهود؟ ولماذا يدعم الإنجيليّون
الجدد الأميركيّون ترامب وإسرائيل؟
بدايةً، من
هم الإنجيليّون الجدد؟
يعود تاريخ الإنجيليّين الجدد إلى القرن الثامن عشر،
حين كانت أميركا مجموعة من المستعمرات، وأطلق عليها حركة "اليقظة" في أميركا،
لكن هذه الطائفة مرّت بتحولات عدّة حتى صارت مشهورة في يومنا هذا بنشاطها السياسيّ،
وانخراط كثير من أتباعها في صفوف "اليمين المسيحيّ"، وتقاطعها فكريًا
وسياسيًا مع" إسرائيل" والحركة الصهيونيّة.
لكنّ المثير للريبة أنّ ترامب
نفسه غير متديّن، وتزوج 3 مرات، وكان لديه حانات، وعليه قضايا تحرّش، وكل ذلك يطرح
تساؤلات عدّة، أبرزها:
ما الذي دفع الإنجيليّين
الجدد إلى دعم دونالد ترامب؟
إنّ حملة ترامب الانتخابيّة
فتحت الباب واسعًا أمام إقبال شديد من الطائفة الإنجيليّة للتصويت للمرشح الجمهوريّ،
بسبب الخطاب الذي يُعد خطابًا "إنجيليًا" (نسبة للمذهب)، فهو في أقصى اليمين
المتطرف، معادٍ للمهاجرين والعرب والمسلمين، مؤيّد لدولة الاحتلال الإسرائيليّ، يَعِدُ
بخفض ميزانيات الخدمات الاجتماعيّة، وتخفيض الضرائب على الأغنياء.
ووفقاً للأصول البروتستانتيّة
للإنجيليّين، فإنّ بروتستانتية ترامب هي واحدة من الأسباب وراء دعم الطائفة الإنجيليّة
له، علاوة على ذلك، يتّضح أنّ الإنجيليّين الجدد أيضًا يشجّعون على الثراء كالبروتستانتيين،
وللأثرياء مكانة خاصة لديهم، حيث أنّ ترامب يتمتع بهذه الميزة أيضًا.
ففي كانون الثاني/ يناير
2017، لفتت الكاتبة ميشيل غولدبرغ، في صحيفة "نيويورك تايمز"، إلى أنّ ترامب
"غير المتديّن" هو "حصان طروادة لليمين المسيحيّ" الذي يريد السيطرة
على السياسة الأميركيّة.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى
تصريحات وزير الخارجيّة الأميركيّ مايك بومبيو لوكالة البث المسيحيّة المحليّة(CBN) ، في 22 آذار/ مارس 2019، حول اعتقاده بأنّ "الرب أرسل الرئيس
دونالد ترامب من أجل حماية إسرائيل من إيران".
وقبل بومبيو بأشهر، تحديدًا
في 31 كانون الثاني/ يناير، قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض، سارة ساندرز، لذات الشبكة
الدينيّة: إنّ "الرب أراد أن يصبح دونالد ترامب رئيسًا"، مؤكدةً أن هذا هو
السبب الذي جعل ترامب في منصبه.
لا فصل للدين عن السياسة
لا يؤمن الإنجيليّون الجدد بالعلمانيّة،أو
مبدأ فصل الدين عن السياسة، فعبر التاريخ لطالما استخدم الرؤساء الأمريكيّون
الخطاب الدينيّ، والتحشيد في البحث عن تأييد شعبيّ، وأصوات أكثر، وليس بالضروة أن
يكون "مُلقي الخطاب" مؤمنًا بما يردُ فيه، وهو الحال مع ترامب تقريبًا.
جون كيربي، المتحدث الأسبق باسم وزارة الخارجية الأميركيّة
ومحلل شبكة "سي إن إن" للشؤون الدبلوماسيّة والعسكريّة، علّق على حديث
بومبيو حول إرسال الله لترامب قائلاً إنّ "تأكيد بومبيو أنّ ترامب ربما يكون
قد أرسله الرب لإنقاذ إسرائيل، كان ليعد أمرًا مثيرًا للضحك، إذا لم يكن هذا
مؤشراً على أن وزير خارجيتّنا يتجاوز بتهوّر الخطّ الفاصل بين الدين والدولة".
كيربي أضاف أنّ تصريحات بومبيو: "ليست محرجة
فقط، بل خطيرة وغير مسؤولة، وتشجّع المتطرفين الذين يرون الغرب غزاةً صليبيين،
وتزعج الذين ينظرون إلى الولايات المتحدة كمدافع عن الحريات الدينيّة والمدنيّة".
الإنجيليّون الجدد ينتظرون نهاية
العالم
تقول أستاذة اللاهوت في جامعة
برمنغهام كانديدا موس، في تقريرها المنشور في صحيفة "ديلي بيست" إنّ "نبوءات
الإنجيليين الراسخة" تعتقد بأنّ هناك حدثا جللًا سيحدث قريبًا في هذا العالم،
وهو "عودة المسيح لاستعادة أرض إسرائيل"، وفق
معتقدهم.
كما أشارت الكاتبة إلى أنّ ما
حدث يوم افتتاح السفارة الأميركيّة في القدس "تمّ بمباركة القس المعمدانيّ روبيرت
جيفرس لهذه الخطوة والدعاء للرئيس ترامب ومدح استقامته، وكذا الإشادة بدور إسرائيل
في التزامها برسائل الأنبياء وأخلاق المسيح".
وبحسب موس، فإنّ المشكلة الحقيقيّة
لا تكمن في "تبريكات جيفرس"، إنّما بقناعته الراسخة في عقيديته المسيحية
اليمينية، والتي تؤمن بأن افتتاح السفارة في القدس سيتبعه دمار كونيّ (كما هو معروف
عن التدبيريين) وهم جماعة يفسرون هذه الخطوة ببدء حقبة نهاية العالم.
قد يختلف المُبشرون الإنجيليون
في تفاصيل أحداث نهاية العالم، إلا أنّهم يشتركون في منطق "عودة المسيح ونهاية
العالم"، ليعيد بناء المعبد اليهوديّ في القدس "ويستعيد دولة إسرائيل من
اليهود"، بحسب تصريح د. جريج كاري، بروفسور العهد الجديد في جامعة لانيستر لصحيفة
ديلي بيست.
ويقول كاري إنّ جيفرس نفسه (الذي
بارك افتتاح السفارة في القدس) يؤمن بأنّ اليهود لن ينجوا من الدمار من غير اعتناق
المسيحيّة، وبالتالي فإنّ دعمهم لإسرائيل يجب ألا يفهم على أنه دفاع عن الديانة اليهوديّة،
ففي نهاية العالم إن لم يعتنق اليهود المسيحيّة، فجزاؤهم العذاب كبقية الناس، وفق
المعتقدات الإنجيليّة.
الأمر الذي لا يعتبره كاري يصبّ
في مصلحة إسرائيل واليهود "فولاء الإنجيليين لدولة إسرائيل مرهون باستشراف مستقبليّ
لعداء عالميّ تجاه إسرائيل، وإعادة بناء الهيكل ليس إلا نقطة بداية للصراع النهائيّ".
من هنا يبدأ تضارب المصالح،
وتبرز كراهيّة إسرائيل للمسيحيّة
يدرك المسيحيّون في الأراضي
الفلسطينيّة المحتلّة جيّدًا، ما تكنّه بعض الجماعات اليهوديّة لديانتهم ومقدساتهم،
ويسمعون الفتاوى المتتالية من الحاخامات التي تجيز ذبحهم وحرقهم "لأن يسوع أفسد
إسرائيل وهدمها" وفق ما تقول اليهوديّة.
ويستمد هذا الموقف من الرأي
الذي تؤمن به جميع التيارات الدينيّة اليهوديّة، والذي يرى المسيحيّة ضربًا من ضروب
الوثنيّة.
في هذا الصدد، يقول الباحث في
الشأن الإسرائيليّ د. صالح النعامي، إنّه على الرغم من الدور الكبير الذي تقوم به الجماعات
المسيحيّة الإنجيليّة الأميركيّة الداعمة لإسرائيل، فإن هناك رفضًا كبيرًا لأي علاقة
معهم، من معظم المرجعيات الدينيّة اليهوديّة، بل وتطالب بعدم السماح للإنجيليّين بـ
"تدنيس المستوطنات".
ولا يقتصر العداء على المواقف
النظرية، بحسب النعامي، بل يتعداه إلى ممارسة الاعتداءات على الكنائس واستهداف رجال
الدين المسيحيين.
أمّا رئيس منظمة لهافا المتطرفة
بنتسي غوبشتين، فقد ذهب إلى أبعد من ذلك قائلا إنّ إقامة دولة إسرائيل "أكبر صفعة
رنّانة تلقتها الكنيسة على وجهها على الإطلاق، بعد سنوات من محاولات فاشلة لإبادة اليهود".
كما أكد في مقال له على موقع
كوكر الحاريدي، شاكيًا من "فقدان الأمن الروحيّ" الذي يشعر به في القدس بسبب
الكنائس المسيحيّة التي اعتبرها عدوًا قاتلا منذ قرون، قائلا "لا ينبغي منح العمل
التبشيري موطئ قدم، لنلقي بمصاصي الدماء خارج أرضنا قبل أن يقوموا بشرب دمنا مرة أخرى".
الأخطر من ذلك، هو تسريب الأملاك
المسيحية في القدس المحتلّة إلى الاحتلال الإسرائيليّ خلال السنوات الماضية، من بيع
الأراضي والعقارات، بل وتعدّى ذلك إلى تدخل المحكمة الإسرائيليّة لتنتزع أملاكًا تعود
إلى كنيسة الروم الأرثوذكس، وهي فندقا البتراء وأمبريال ومنزل المعظميّة في البلدة
القديمة من مدينة القدس، لصالح جماعات استيطانية.
تحالف انتهازيّ
من ناحيته، يصف الباحث أسعد
العزوني التحالف الإنجيليّ الصهيونيّ "بالانتهازيّ" لأنه قائم على أنّ كل
طرف يستغل الآخر ويتربّص به للانقضاض عليه، بعد انتهاء "حرب هرمجدون"، التي
يزعم الإنجيليّون الجدد "أنّ المسيح المنتظر سيخوضها ضدّ المسلمين".
العزوني يقول إنّ الصهاينة من
اليهود يرسمون على استغلال المسيحيين المتصهينين لابتزازهم، فيدعمونهم لتمكينهم من
استقبال "المخلّص" الذي سيقود معركته ضدّ المسلمين، وفق معتقدهم، ومن ثم
سيطلبون منه لقاء خدماتهم التسهيليّة لنزوله أن يجبر اليهود على اعتناق المسيحية لتصبح
الديانة الوحيدة على الأرض.
كما يؤكّد الباحث أنّ اليهود
يخططون لتهويد المسيحيين، في حين أنّ المسيحيين المتصهينين يخطّطون أيضًا لتمسيح اليهود،
وبين هذا وذاك نعود لطرح السؤال مجددًا: هل يحب الإنجيليون والصهاينة بعضهم بعضًا؟
فانطلاقًا من كلّ ما ورد،
تبرز علاقة وثيقة في العلن، بين الإنجيليّين الجدد والصهاينة، أمّا تحت الطاولة،
فكلّ التناقضات موجودة، إلّا أنّ الكلمة الفصل، تبقى لما يجمع الطرفين من مصالح
عالميّة، يبدو أنّها أكبر من خلاف حول أحداث نهاية العالم.
إعداد: "اللواء"