لم تكن المقابلة التلفزيونية التي أجراها رئيس الجمهورية ميشال عون ليل أمس الأوّل كما كان منتظراً من البعض وتحمل في طياتها تباشير انفراج وتحقيق اختراق ملموس في جدار الأزمة التي تعصف بلبنان جرّاء استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري تحت ضغط الانتفاضة الشعبية العارمة ضد السلطة جمعاء، وتحيي الآمال بقرب انطلاقة مسيرة الحكومة الجديدة، بل ما تضمنته من مواقف سلبية وتعاطٍ فوقي مع المتظاهرين، زاد من حدة الأزمة وأحجج حراك المتظاهرين وأتى بنتائج معاكسة كلياً.
وبدلاً من مد اليد وإبداء التعاطف والتحسس بمطالبهم وأسباب نزولهم إلى الشارع واظهار الانفتاح الجدي على مقاربة فعلية لهذه المطالب ووضع آلية للمباشرة بفتح حوار سريع لكسر حلقة التباعد وإرساء عوامل ثقة وتقارب مع المتظاهرين، صعّد رئيس الجمهورية لهجته الكلامية ضدهم، مقللاً من تأثير حراكهم بالاشارة إلى نسبة عددية محددة لحجمهم بمقارنة بعدد الشعب اللبناني وصولاً إلى قوله، فهمنا مطالبكم وهواجسكم، لكن لا تخربوا لبنان مذكراً اياهم بمسيرته وبالطبع من دون ان يتطرق الى محطاتها الكارثية ومخاطبتهم أخيراً وإذا لم يعجبهم أحداً في السلطة، يروحوا يهاجروا».
لم تقتصر رسالة رئيس الجمهورية إلى المتظاهرين والحراك عموماً على هذا النحو من السلبية والتصعيد، بل كانت الرسالة الأهم هي للرئيس سعد الحريري في معرض الكلام عن مسار الاتصالات الجارية للمباشرة بتشكيل الحكومة الجديدة ووصفه لموقف رئيس الحكومة المستقيلة بالمتردد لأسباب شخصية من وجهة نظره، فيما أبدى رفضه الكلي لمطالب المتظاهرين بتشكيل حكومة تكنوقراط وهو ما يشترطه الرئيس الحريري أيضاً ويتمسك به لتأمين حكومة جديدة، فيما الأهم تمسكه بتوزير صهره جبران باسيل، باعتباره أكبر رئيس كتلة نيابية كما قال ومتجاهلاً حملات الرفض والاعتراض من حراك الشارع ضده وكأن كل ما يحصل لا قيمة له في حساباته.
لا شك ان توصيف موقف الرئيس الحريري بالمتردد والشخصي من مسألة تشكيل الحكومة الجديدة، يأتي للرد على فشل كل المحاولات التي بذلها جبران باسيل مع رئيس الحكومة المستقيلة، لاستنساخ صيغة حكومية مشابهة لصيغة الحكومة المستقيلة مع بعض التعديلات التجميلية وان يكون هو وزيراً فيها خلافاً لموقف وإصرار الرئيس الحريري على تشكيل حكومة تكنوقراط جديدة لا تضم بصفوفها رموزاً وزارية من الحكومة المستقيلة، لكي يتمكن من خلالها تحقيق صدمة إيجابية فعلية ترضي الحراك الشعبي وتستطيع ان تقارب المشكلة المالية والاقتصادية باحترافية وقدرة مطلوبة في هذه المرحلة الصعبة والدقيقة التي يمر بها لبنان حالياً، ولانه من خلال مثل هذه التركيبة الحكومية يمكن إنقاذ لبنان من خطر الانهيار المالي المحدق به، في حين ان استنساخ صيغة الحكومة المستقيلة سيكون من الصعب أو حتى من المستحيل تسويقها في الشارع أولاً وستتعرض للسقوط الحتمي لأنها لا تعبر عن تطلعات ومطالبة جزئية للحراك وهذا يجب التنبه له مسبقاً، ولان تجربة التعاون في الحكومة المستقيلة لمقاربة المسائل والمواضيع المهمة لم تكن ناجحة ولا مشجعة أيضاً.
يضاف إلى ذلك ان محاولات كل الأطراف الآخرين كحزب الله وحركة «أمل» حاولا من خلال الاتصالات واللقاءات المتعددة التي جرت خلال الأيام الماضية التشجيع على تشكيل حكومة مختلطة «تكنوسياسية» وهي بالمحصلة نسخة معدلة عن صيغة حكومة الوفاق الوطني المستقيلة وتلاقي في مكان ما، ما يرّوج له رئيس التيار الوطني الحر، في حين يرفض الرئيس الحريري هذا الطرح بالكامل، ولانه وحده سيتحمل نتائج تأليف الحكومة وحصيلة أعمالها، فهو متمسك بتأليف حكومة «تكنوقراط» بالرغم من كل ما يواجهه من اعتراضات الأطراف السياسيين الأساسيين.
ولهذه الأسباب كلها يبدو أن مساعي تشكيل الحكومة الجديدة وراء الكواليس وقبل اجراء الاستشارات النيابية الملزمة حسب الدستور، تدور في حلقة مفرغة حتى اليوم، لأنه لا يبدو ان معظم الأطراف السياسيين مستعدين للتنازل عن مواقعهم في أي تركيبة وزارية مقبلة أو لأنهم لا يعيرون اهتماماً ملحوظاً للانتفاضة الشعبية ويسعون لتكرار ممارساتهم التي اوصلت إلى هذه الأزمة الخطيرة التي باتت تُهدّد لبنان.
وقد يدفع هذا الدوران في الحلقة المفرغة ذاتها وإصرار الرئيس الحريري التمسك بشروطه ورفضه تشكيل حكومة بشروط الآخرين إلى التهويل بتسمية رئيس حكومة آخر غير الرئيس الحريري كما تروج دوائر قصر بعبدا ومن يلف لفها، في حين تبدو مثل هذه التهديدات أو الإشارات لا تؤثر في تغيير موقفه مهما قويت الضغوطات عليه، لأنه مقتنع أولاً بصوابية موقفه بتشكيل حكومة «تكنوقراط» إنقاذية تحديداً انطلاقاً من موقعه وزعامته وعلاقاته مع الخارج بما يُشكّل الرافعة الإنقاذية الفعلية، فيما يفتقد الآخرون، أياً كانوا مثل هذه المواصفات أو أقلها وهذه نقطة ضعفهم القاتلة ومعهم كل من يروجون لهم.