انفجارات وزلازل وحروب،
عصفت تاريخيًا بهذه المدينة المنثورة على شاطئ المتوسط، أدمت قلبها وشرّدت ناسها
ودمّرت تراثها، فتعود لتتحدّى الانكسار وتصنع من رحم الهزيمة انتصار.
إنّها بيروت، وما أدراك ما
تحمّلته من هبّات انحنت أمامها قليلًا، قبل أن تنهض من كبوتها بشراسة وإصرار، بل
وعناد لا تظهره إلّا عروسة المتوسط.
عاشت الحرب فلملمت دمارها ونهضت، دمّرتها الزلازل
فنفضت عنها غبار الركام وانتفضت، أدمتها الاغتيالات فضمّت في أحشائها أجساد
شهدائها وضمّضت جراحها وانتصرت.
إلّا أنّ مصائب بيروت اليوم لا تأتي فرادى، فمن
أيامها الملأى بالضجر والسكون، في ظلّ وضع اقتصاديّ فتك بأسواقها ولياليها، إلى
صراعات ساستها ومناكفاتهم التي لا تنتهي إلّا بصفقات وحصحصة، جاء جرح بيروت أمس، ليُصيبها
بطعنة دامية غُرزت من القلب إلى أقصى الأطراف.
ليُشرّع باب السؤال على
أقصى مداه باحثًا عن "القنبلة القاتلة"!
فعلى وقع التأكيدات الرسميّة
بأنّ سبب الانفجار الذي هزّ قلب لبنان، ناجم عن انفجار مستودع يحتوي على 2700 طن من
نترات الأمونيوم، التي تستخدم سمادًا زراعيًا، تكشّفت خطورة هذه المادة التي كانت وراء
الكارثة. فكيف يمكن أن تتحوّل هذه المادة
الكيميائيّة الزراعيّة إلى قنبلة قاتلة، في ظروف معيّنة؟
ما هي نترات الأمونيوم؟
نترات الأمونيوم مادة صلبة بلورية
بيضاء قابلة للذوبان بشكل طبيعي، وتعرف باسم "الملح الصخري"، وصيغتها الكيميائية
هي NH4NO3.
ورغم أنّ أكبر مخزون من نترات
الأمونيوم الطبيعيّة موجود في صحراء أتاكاما في تشيلي، فإنّ ما يقرب من 100 بالمئة
هذه المادة المستخدمة الآن اصطناعيّة، ويمكن تحضيرها عن طريق تفاعل الأمونيا مع حمض
النتريك.
ما هو استخدامها؟
تستخدم نترات الأمونيوم في الغالب
في الزراعة كسماد عالي النيتروجين، وهي مادة مستقرة نسبيًا في معظم الظروف، وغير مكلفة
من ناحية التصنيع، مما يجعلها المادة الكيميائيّة البديلة الأكثر شيوعًا كمصدر للنيتروجين،
والأقل تكلفة.
كما تعدّ نترات الأمونيوم مكونًا
رئيسيًا لمادةANFO ، المعروفة باسم "زيت الوقود"،
التي تستخدم كمادة تفجير اصطناعيّة في قطاع التعدين والمحاجر والبناء المدني، وتمثّل
80 بالمئة من المتفجرات الاصطناعيّة المستخدمة في الولايات المتحدة.
لا تعتبر مادة نترات الأمونيوم
خطيرة في حدّ ذاتها، لكن في ظروف معيّنة يمكن أن تكون مدمرة، ومن هنا، فإن لدى معظم
البلدان لوائح تتعلق بطرق تخزينها للتأكد من أنها آمنة.
ما الذي يجعل نترات الأمونيوم
تنفجر؟
هناك مجموعة من العوامل والظروف
التي لا بد من توافرها لتحويل نترات الأمونيوم من مركب آمن إلى مادة متفجرة، من دون
أيّ وقود أو محفزات خارجيّة.
يتمّ تصنيف نترات الأمونيوم
على أنّها "مادة حيوية"، وهي تنتج الحرارة أثناء تحلّلها على غرار الطرق
المعروفة عن توليد الحرارة باستخدام المواد المتعفنة في السماد.
وإذا كانت هناك كمية كبيرة من
نترات الأمونيوم في ظروف غير طبيعيّة، فإنّه يمكنها توليد حرارة ذاتيّة كافية لإشعال
النار واستمرار الحريق، من دون الحاجة إلى أيّ محفز خارجي.
الأمر الأدهى، أنّ نترات الأمونيوم مادة قابلة
للاشتعال وللانفجار، وتبلغ سرعتها الانفجارية 2500 متر في الثانية. وما
يزيد هذا المركب خطورة، أنّ احتراقه تنجم عنه أكاسيد النيتروجين السامة، وقد يفسّر
هذا الأمر تصريح السفارة الأميركيّة في العاصمة اللبنانيّة، عن وجود تقارير تحدثت
عن "انبعاث غازات سامة إثر انفجار مرفأ بيروت".
وأثناء احتراقها، تمرّ نترات
الأمونيوم بتغيرات كيميائيّة تؤدي إلى إنتاج الأوكسجين، وهو بالضبط ما يحتاجه أيّ حريق
للاستمرار والتمدد، ومع ارتفاع درجة الحرارة تتحول المادة إلى ما يشبه "مفجر القنبلة".
تظلّ المساحة خلف "المفجر"
تزداد سخونة مع سرعة الاندماج حيث تتشكل الغازات الساخنة بشكل أكبر كثافة، إلى حين
لا تجد مكانًا تتسع فيه، فتنفجر في نهاية المطاف.
قنابل الأسمدة
تلعب التكلفة المنخفضة لنترات
الأمونيوم، فضلًا عن توافرها في الأسواق، دورًا كبيرًا في جعلها المادة المفضلة للجماعات
الإرهابيّة من أجل تصنيع القنابل.
وبينما تعدّ نترات الأمونيوم
المحرك الأساسي لإحداث الانفجار، فإنّ تصنيع قنبلة من هذه المادة يحتاج إلى صاعق
"مفجر القنبلة"، وبعض الوقود الذي يمكن أن يجعل تأثير التفجير مضاعفًا.
تاريخ من الكوارث المروّعة!
تسجّل لنترات الأمونيوم حوادث عدة بعواقب مأساويّة،
يعود أوّلها إلى عام 1921، في مدينة لودفيغسهافن الألمانيّة.
تلت ذلك كارثة وقعت في ميناء تكساس، في 16 نيسان/ أبريل
عام 1947، حيث اندلع حريق في سفينة كانت تحمل 2300 طنًا من مادة نترات الأمونيوم،
ما أدى إلى انفجار أودى بحياة المئات وأصاب آلاف بجروح حرجة، ما دفع إلى وصفها بأنّها
من أكبر الكوارث "غير النوويّة" في العالم.
هذا وقد استخدم الجيش الجمهوري
الإيرلندي في المملكة المتحدة، قنابل الأسمدة مرات عدة، ففي نيسان/ أبريل 1992 انفجرت
قنبلة أسمدة وزنها طن في مبنى في لندن، مما أسفر عن مقتل 3 أشخاص.
كما استخدم الجيش الجمهوري الإيرلندي
قنبلة أسمدة أخرى في تفجير آخر في لندن في شهر نيسان/ أبريل 1993، حيث عمد إلى إخفائها
في شاحنة صغيرة، وأدى الانفجار حينها إلى مقتل شخص وإصابة 40 آخرين.
وفي مدينة أوكلاهوما في الولايات
المتحدة، استهدفت قنبلة أسمدة مبنى في نيسان/ أبريل 1995 وقتلت 168 شخصًا، وقد أعدم
منفذ الهجوم الرئيسي فيما سجن متعاون معه مدى الحياة.
من الحوادث لاحقًا، الانفجار في معمل للأسمدة
الزراعيّة في مدينة تولوز الفرنسيّة عام 2001، ما تسبب في مقتل 15 شخصًا وإصابة
نحو 200 آخرين.
كذلك في الولايات المتحدة، حيث دوّى انفجار في مصنع آخر
للأسمدة عام 2013. حصل ذلك في منطقة وست في ولاية تكساس، ما تسبّب في مقتل 14 شخصًا
وإصابة نحو 200 آخرين، وتوصل المحققون إلى أنّ نترات الأمونيوم كانت سبب الكارثة.
أمّا اليوم، فلا تزال بيروت، إحدى أبهى عواصم العرب،
تلملم جراحها من تحت أنقاض لا تزال تخفي مشاهد رهيبة من الموت والخراب، التي أدمت
قلوب الملايين. فهل يتحوّل لقب "أكبر الانفجارات غير النوويّة" من ميناء
تكساس إلى مرفأ بيروت؟